وديع شامخ – رئيس تحرير مجلة «النجوم»

المعرفة البشرية هي حصيلة تراكم لجهد عقلي شاق عبر تطور كمي ونوعي  في مسيرة تاريخية وسياحة عميقة في شتى مناحي  الحياة الانسانية ، ولعل شغف الانسان بالفضول والبحث عن الجديد ، وعن التطور هو ما يجعل المعرفة الانسانية في حالة صيروة دائمة . وربما كان السؤال  والقلق والشك هما من اهم المفاتيح لمعرفة الأسرار التي تحيط  بالانسان والارض والكون عامة .
ولاشك ان  المعرفة كمعطى عقلي  نظري وعلمي وعملي تجريبي ايضا ، سوف تكون أيضاً عرضة لباب الشك  و الاختلاف  والتأويل والاجتهاد ، المختلف والمعارض من قبل آخرين ، علماء وفلاسفة ورجال دين ، منذ  لحظة صياغة  مفروضها النظري، الى منطوقها وصولاً الى ما هو مطلوب اثباته
————
وهذا الاختلاف  لا يشكل عيبا في الفكر البشري طالما حافظ على قيمة الاختلاف بأفقه العلمي   وبرهانه  المطلق ، فلو اخذنا ظاهرة  علمية محضة تتعلق بشكل الارض مثلا  ، هل هي كروية ام  مستوية أم بيضوية ، وهل هي مركز الكون  ام هي مجرد  كوكب صغير  في مجرة اكبر تنتمي اخيرا الى  نظام كوني عظيم  لم يستطع العقل البشري من ادراكه  وفك شفراته كاملاً ؟؟
سنجد ان العلم قد قال قولته الأخيرة في كروية  الأرض مدعما لها بالبراهين والحقائق التي تدحض  كل رأي مخالف ، سواء كان علميا ام دينيا. وقال  رأيه الواضح في حقيقية وجود الارض ضمن نظامنا الكوني الباهر ، وهو رأي لم تصمد الايديولوجيا الدينية بوجهه  رغم تمسك سدنة  بعض الاديان برأي مخالف ، غير علمي  وغير منطقي نهائيا.
ولعل تجربة العلماء والمفكرين المريرة  مع الافكار الدينية الاقصائية  شاهد حي  على انتصار العلم  ببراهينه على شكوك وظنون واهية لا تسند على عقل متفتح  ورؤية ديناميكة في التعامل مع المتغيرات  وعدم ربطها بالثابت المقدس  دينيا وعزله  عن حرية الفكر البشري في  اكتشاف أسرار منظومته الكونية .
———–
ديكارت Cogito
الشك صفة  عقلية سامية، واليقين  سمة روحية، وكلاهما ينتميان الى  الانسان بوصفه عقلا وجسدا وروحا ، وهذا الصراع الازلي للفكر الانساني في تحديد  ماهية الانسان ، هل هو جسد وعقل  فقط ، ام هناك نفس  وروح أيضا ؟؟
ومهما يكن الامر فقد ظل الشك عاملا مهما من عوامل المعرفة البشرية ، حتى جاء الكوجيتو الديكارتي بالمبدأ الذي انطلق منه ديكارت لاثبات الحقائق بالبرهان  ، والذي  اختلف ايضا في ترجمته ، بين « انا افكر  إذن انا موجود « وبين «  أنا  أشك  إذن أنا موجود « ، ومهما يكن من الامر فتقعيد الشك  كأصل للمعرفة يثبت أن  الوجود البشري برمته يحتاج الى قدر من الشك والقلق  والتفكير .
وجاء نيتشه بنزقه الاشكالي  واضاف رأياً آخر  بقوله « ليست الشكوك هي التي تفقد العقل بل اليقينيات»
حتى اعتبر هذا المبدأ  – الشك ? أساسا مهما ومحركا  للفلسفة على حد تعبير روجيه بول دروا
————————
اذا اتفقنا  على ان الشك ملازم لطبيعة العقل البشري  فسوف يتساوى مع اليقين  ، لان كل شك ربما يفضي  الى يقين ، وسيكونا  كل من الشك واليقين على حد سواء في نسبيتهما ، ولا يصح الاحتكام الى براهينهما المؤقتة ، طالما انحصرت في التفكير بمفصل عقلي اشكالي .
واذا  طبقنا الشك واليقين على العلم  سوف نكون منساقين  الى اليقين حتما ، وليس مع مسلسل الشك الفلسفي اللانهائي ، فالعلم يفضي بالشك الى برهان ، ويقدم كل القرائن العلمية  على صحة الفروض-الشك- ،  وهنا يصبح السؤال الفلسفي  العقلي خارج مدار العلم العقلي ، واليقين الروحي .
——————-
خلاصة
ان العقل  لايكمله شك ولا ينقضه يقين ، فالانسان كائن خاضع  بمعرفته لجملة كبيرة من العوامل  الذاتية والموضوعية ، ومن التأثيرات الايدلوجية والفاسفية والعقائدية ، فلم يعد  العلم بريئاً  جدا  في حقل الشك واليقين  الروحي ، لانه  بعيد  جدا عن اشتغال العلم المختبري الحقيقي ، فالعالِم  ليس معني ابدا  بإثبات وجود الله او  نفيه ، ليس معنيّ بثنائية الكائن البشري ? جسدا وروحا ، ولا بثلاثيته ? جسداً وروحاً ونفسا ، لقد ترك هذه الاسئلة للانسان نفسه عبر حقل الفلسفة ، وللاسف ان الفلاسفة   قد  ساهموا  بمزيد من الغموض عن  الانسان في شكه ويقينه .
العلم بانحيازه والعمل وفق  تصورات خارج مختبرية ، والفلسفة في اسئلتها الدائرية ، لم يقدما للإنسان حلا روحيا ، لم يحترما خياره الروحي  إزاء علاقته  شكا ويقينا في  وجود الله مثلا، ليس كما تسوقها   الإيديولوجيا الدينية،  بل بوصفها علاقة روحية خالصة لا تحتاج الى شك فلسفي او براهين علمية ، انها تجربة روحية ذاتية ، تتلمس الكائنات نتائجها بنفسها ، ولا  شأن لأحد بتكذيبها ، طالما هي تجربة روحية وشهادة شخصية ، علاقة لا شأن  لها  بنقض منجزات  العلم او حجر الفلسفة ، التجربة الروحية للكائن البشري  تحتاج الى يقين روحي وشك روحي ايضاً ، ولا تنطبق عليها ايّة معرفة خارجية مقحمة  ، لانها غير متناقضة  مع العام ومتصالحة مع كشوفاتها الذاتية.
فاذا  قدمت لنا الفلسفة سرا للهاجس  الانساني  ، وقدم لنا العلم براهين  كبرى عن حياتنا الخارجية ، فالتجربة الروحية تقدم لنا توازنا ذاتيا يحمينا من وجود الكائن البشري عرضة لمزاد الشك  وبوار اليقين ، الحياة الروحية  تمنحنا قوة  عقلية  وروحية ونفسية  لقبول الشك واليقين والاسئلة بوصفمها ثمار الانسان  الناضجة ومعرفته  الجمالية والحسية في علاقته مع الانسان  ومع الله معا