نظرت الى وجهها في المرآة , لم يعجبها ما رأت , انتفاخ جفنيها أخفى جمال عينيها الواسعتين , بدتا متورمتين  من كثرة البكاء, لم يغمض لها جفن البارحة , داهمها خبر موته على عجل , تلعثمت ولم تعد قادرة على الكلام مع ابنها الذي كان يبكي أبيه  بحرقة, تفاجأت لم تتوقع أن يحزن هكذا على أب تركه وشقيقته ليلحق  نزواته , تظاهرت بالبكاء احتراما لحزن ابنها وأغلقت سماعة الهاتف واستسلمت لشريط من الذكريات, لم تبك المرحوم وانما عذاب  ثلاثين سنة في استراليا .
كانت في السابعة عشرة عندما تزوجته , رأت فيه كل المواصفات التي تحلم بها فتاة لم تخض غمار الحياة ,لم يسأل أهلها عنه, فهو ابن قريتها وكلمة « عريس من برا « كانت كافية لتسكت كل التساؤلات . اعتقدت انه أحبها , لتكتشف بعد سنين انها كانت مجرد قطعة مفروشات جميلة أضافها  الى مقتنياته الثمينة ,لتكتمل  صورة المغترب الغني الذي ترافقه زوجته الجميلة الى الحفلات.
وعدها بأن تكمل دراستها وأن تعمل ,  ولكن الوعود تبخرت عندما أصبحت في بيته في الغربة , مع زوج يكبرها بخمسة عشرة عاما وتجارب مع نساء أجنبيات يشيب لها شعر الرأس, كانت تعتقد انه انسان منفتح لانه عاش في الغرب لتكتشف أن عقليته شرقية متحجرة لا تفرق عن عقلية جدها الذي تركته خلفها في القرية, وأنه لم يتعلم من الحرية الغربية سوى شرب الخمور  ومعاشرة النساء الاجنبيات.
لم تحبه يوما , حاولت كثيرا ولكنها كانت تفشل كل مرة , لنقل ان معاملته لها لم تساعدها على حبه ,كانت تطبخ  وتنظف وتحمل وتلد , وهو «الاله» الذي لا يرد له طلب , عزلها عن أبناء الجالية ,لا صديقات لها , لا تخرج بدون اذنه , حتى زيارة الطبيب كانت فرصة لاستغراض عضلاته الذكورية , فكان يجيب على كل اسئلة الطبيب بحجة أن انكليزيتها غير جيدة وهو» شكسبير عصره «.
كانت تذوي في قفصها الذهبي يوما بعد يوم ,  ترتعب كلما زاد وزنها أو ظهرت تجاعيد صغيرة حول عينيها , فهي تعرف قيمتها عنده , جمالها لا أكثر ولا أقل , ويوم يذهب هذا الجمال سيبحث عن البديل ,كان ينهال عليها بالانتقادات اللاذعة أو النكات التي تسخر من عمرها  أو شكلها , ويقارنها بالنساء الصغيرات  اللواتي يلتقي بهن في لبنان , ويقول « عم يعملوا عمليات شفط ونفخ وشد , ليعجبوا  أزواجهم وحضرتك ما بيهمك شي !»كان يتبجح بأمواله أمامهن , ويتكلم عن نجاحاته في الغربة , وهن يجهلن انه طرد من المدرسة , وانه يجمع أمواله بطرق غير شرعية ويعتبر نفسه « اللبناني الشاطر « الذي يحتال على الجميع ويتباهي بالامر .
ولكن لم يعد يهم الموضوع , لقد رحل أخير , وهي اليوم تتحضر لمآتمه , ستلقي عليه النظرة الاخيرة ,ستعود وحيدة الى البيت لتجمع اشلاء نفسها وترتاح في السنوات الباقية من عمرها , لكن ماذا ستقول عنه في الكلمة التي ستلقيها في المأتم , فضلت أن لا تتكلم , كلفت ابنها الكبير أن يلقي كلمة العائلة , اضافة الى شقيقه الكبير, ستجلس متنكرة بزي أرملة المرحوم الحزينة .جلست في المقعد الامامي المخصصة لعائلة المرحوم , مع شقيقات وأشقاء  زوجها واولادهم , كانت تلبس فستانا  أسودا انيقا , فالمأتم هنا مناسبة لاستعراض آخر صيحات الموضة ولكن بالاسود , , اختارت عقدا من اللؤلؤ الابيض كان المرحوم أهداه لها في عيد زواجهما  العشرين , لم يكن يبخل عليها بالمجوهرات النفيسة , ليس حبا بها ولكن للتبجح أمام الاقرباء والمعارف بماله وبذخه.
كان شقيق المرحوم اول المتكلمين ,تكلم عن طفولتهما سوية عن ذكاء شقيقه الحاد  وكيف انه انسان عصامي جمع ثروة كبيرة  من تعبه ودون مساعدة من أحد , تحدث عن أعماله الخيرية للجالية , كانت تستمع وتهز برأسها , شعرت ان سلفها يتكلم عن رجل آخر لا تعرفه , فالرجل الذي عاشت معه مختلف تماما, هي وحده تعرف سلوكياته الملتوية في جمع الثروة, من تجارة المخدرات الى التهرب من دفع الضرائب , اكيد أن شقيقه يعرف هذا الامر ولكن لن يذكره بالتأكيد في « خطبة الوداع « فالمرحوم في دار الحق الآن , ولم تشويه سمعة العائلة المرموقة في الغربة , الافضل « ضبضبة « الموضوع .
تعذر على الابن المفجوع القاء كلمته من دون ان يتوقف عدة مرات بسبب البكاء , لم تفهم اذا كان يبكي ابيه او يبكي نفسه  , ليالي كان يقضيها باكيا بسبب الشتائم والضرب من قبل أبيه  لاتفه الاسباب , أو كفشة خلق بعد رجوعه سكراناً من احدى السهرات.
وكانت المفاجأة ان الكاهن بعد الصلاة عليه , اعطاه صك براءة , ممكن  انه لا يعرف حقيقته !..  غير معقول , ولكن لماذا تكلم عنه كأنه ملاك , ,ممكن الأموال التي كان يتبرع بها للمؤسسات الدينية هي السبب ..ازعجتها هذه الافكار  , سرحت بخيالها بعيدا عن مآتم التكاذب والممالقة هذا , ساعة وينتهي كل شيء , ستتقبل التعازي في القاعة الكبيرة وتتظاهر بالحزن وتلقي خيباتها وراء ظهرها وتمشي .