المتروبوليت بولس صليبا
يبدأ إنجيل اليوم من الإصحاح الثاني عشر من لوقا. مصوباً على مقطع 15…» حياة الإنسان ليست في كثرة أمواله «. كلام آخر لا تتوقف حياة الإنسان على ممتلكاته، ولا يمكن لغناه أن يعطيه حياة أطول وأكثر سلامية. لماذا تكلم السيّد بهذا المثل؟ طلب منه أخ أن يتدخل ويحل له مشكلة الإرث مع أخيه الآخر، ليُعطيه أخوه حصته بالعدل. رفض السيّد التدخل وقال: « من أقامني عليكما قاضيا؟» ثم تابع كلامه بمثل الرجل الغني الجاهل.
يُعتبر هذا المثل الدّرة الأغلى بين كل دُرر الإنجيل الأخرى. لم تكن المرة الأولى التي يتكلم فيها السيّد عن الغنى. في مكان آخر يصف لنا حالة رجل آخر شغل عقله ووقته كثرة ما أعطته أرضه حتى أن المخازن لم تعد تسعها، سأل نفسه ماذا عليه أن يعمل؟ كيف سأخزنها؟ يصف السيّد هذا الرجل بالجاهل والمادي. فتكلم عن الأغنياء وقصة متى لواحدة مهمة (متى 19: 23- 24) « قال يسوع لتلاميذه الحق أقول لكم أنه يعسر أن يدخل غني ملكوت السماوات… إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات». نفس خط التعليم نجده عند الرسل في وعظهم وكتاباتهم. يكتب الرسول يعقوب في ( 5: 1- 3) ما يلي: « هلمّ الآن أيها الأغنياء ابكوا مُولولين على شقاوتكم القادمة. غناكم قد تهرأ ونباتكم قد اكلها العث. ذهبكم وفضتكم قد صدءتا وصدأهما يكون شهادة عليكم ويأكل لحومكم كنار…»
لا شك بأن البعض سيحوّل ويدوِّر معاني هذه الكلمات بسبب مصلحتهم الأرضية. سيحورون المعنى بأن المدينة السماوية ههنا تعني المعوزين وقد سُدّت أبواب النعيم في وجه الأغنياء الجهلاء. إذا قبلنا بهذا المفهوم حينئذ تصبح المسيحية ثورة مستمرة ضد كل أي إنسان بمجرد أن بعض الأفكار المادية تمر في عقله. نعرف انه حتى الرهبان الذين جعلوا المغاور والكهوف بيوت عبادة لهم يرغبون في بعض الأمور الأرضية مثل الكتب، الأيقونات، وبعض الثياب ألخ. هل يمكن أن يكون سيّدنا غير عادل في أمور الثروة؟ إن ما ذكره السيّد في إنجيل اليوم لا يعني رفضه للغني وللأغنياء بحد ذاتهم. يُعاتب السيّد الذين يُسيئون غناهم. مثلاً عندما يُصبح الإنسان واحداً مع غناه، يسمح له أن يُسيطر على حياته وشعوره. المال واستعماله ينبغي أن يبقى تحت إرادة الإنسان وليس العكس. لا يمكن للمال أن يُصبح الهدف الأوحد والأخير للحياة، بل أن يبقى وسيلة نحو ذاك الهدف.
عندما يضع الإنسان هدفاً لحياته جمع المال والأرزاق، يُعرض نفسه لكل أنواع الخطايا والإثم. فلا يترك شيئاً يقف في طريقه للوصول إلى غايته بما فيهم الأقرباء والعائلة والأصدقاء. شهوته الجامحة لجمع المال تدفعه للسرقة، للكذب، وحتى القتل. هذا النوع من البشر يرفض الإعتراف بأي مسؤولية نحو الآخرين ولا يتأخر في اتهامهم وتأنيبهم خلال تعاملهم معه. يختزن أمواله وسترى يده ترتجف عندما يُفرض عليه استعمالها كراتب أو لعمل خير. والأهم من كل ذلك، يُصبح ملحداً، مقايضاً ديانته والتزاماته الأخلاقية بالمال. يقيس قيمة كل شيء بالمال، لأن هدف حياته هو ثروته وهي صنم عبادته. يتكلم الرسول بولس بصراحة في رسالته إلى (تيموتي الأولى 6: 9- 10) « أما الذين يريدون أن يكونوا أغنياء فيسقطون في تجربة وفخ شهوات كثيرة غبية ومُضرة
تغرقهم في العطب والهلاك».
كان تفكير الفلاسفة والكتّاب القدماء يُشابه تفكير السيّد ورسله. كتب سقراط الفيلسوف ما يلي: « الغنى جيد، ولكن لا أن نخزنه في المحفظة، بل لنستعمله لمساعدة المحتاجين». الأغنياء ينبغي أن يكونوا خدمة لله والإنسان وأن لا يستعملوا غناهم فقط لملئ المعد. الإنسان الذي يخزن غناه في البنوك والأرزاق أو يستعمله لمصلحته وحاجاته فحسب، لا يخدم البشرية.
سيّد السما والأرض وإله إنجيل هذا الأحد يكلمنا عن رجل غني كانت نفسه متقلبة ومنزعجة خلال الليل، يفكر فقط بغناه كأي جاهل. يتكلم الجاهل عن أرزاقه كونها « ملكه « جاهلاً بأن كل شيء هو ملك الله، والإنسان هو مجرد وكيله، مدبّر الشؤون والأمور المادية لله. المسألة هي في كيفية استعمال غناك. فلا تعطيه معنى أخلاقياً. لكن قس قيمته بناء لنوعيته.
كتب القديس باسيل عن الغنى قال: « لا نستطيع أن نضع حذاءً كبيراً في رجلي طفل وننتظر منه أن يسير فيهما دون أن يقع «. استعمل غناك كما يجب ولا تدعه يسيطر على عقلك وحياتك، لكن اجعل استعماله وسيلة للتقرب من أخيك الإنسان ومن الله.
آميــــــــــــــــــن