وديع شامخ – رئيس تحرير مجلة «النجوم»
في أن تكون مختلفاً
التطابق مشاع
الإختلاف ندرة
والحياة الإنسانية تجري في حقول متنوعة
……….
كتابة العمود الصحافي واحدة من اصعب المهام التي يضع فيها الكاتب نفسه لأسباب مختلفة اولها انه لا يمكن أن يكون محايداً فهو يضع فكرته ورأيه بشكل يختلف عن التحقيقات الصحافية والاستطلاعات والتغطيات الميدانية التي ينبغي ان تتصف بقدر من الحيادية أو ما يبدو حياديا، بينما على كاتب العمود أن يبين وجهة نظره بطريقة مقنعة تصل الى الجمهور.
…………………
ما يقدم في العمود بكلمات محدودة العدد هو ثمرة لبحث جاد ،وتقليب للفكرة واشباعها دراسة كي لا تكون سطحية غير ناضجة.. طبعا هذا الامر يكون في الأعمدة الصحافية الجادة وعند الكتّاب الذين يقدرون خطورة أن يكون المرء كاتب عمود له متابعيه.
………………..
ومن مشاكل كتابة العمود الوقوع في التكرار ، فهناك أعمدة يومية وأسبوعية وشهرية حسب اتفاقات النشر وبالتأكيد أصعبها العمود اليومي الذي يضع الكاتب في مأزق أن يكون عقله خالياً من أية فكرة أو أنه يبحث كل يوم عن مادة للكتابة وأحيانا لا يجد ما هو مناسب فيختار ما هو اقل، وهذا الامر يكشف قدرة كاتب العمود على الإبداع وعدم التكرار الممجوج.
………..
كتابة العمود تحتاج إلى ثقة بالرأي كي لا يبدو الكاتب تبريرياً في كل مرة يختار موضوعا للكتابة لأن تبرير الكتابة يعني ان هناك اتهاماً ينبع من داخل المرء تجعله يبحث عن المبررات ليقدمها لقرائه.
……………………….
ضعف الشخصية او قوتها تشي به كلمات الكاتب ،لذا فاننا حين نقرأ لشخصية مهزوزة تكون الكلمات هي الفضيحة التي تكشفه حتى أننا احيانا يمكن ان نسمع همهماته وارتجافة عقله بين تلك السطور، ويبقى الأهم هو الشرف. المهني والوضوح الفكري . فلكي تكون كاتباً شريفاً ربما تخسر الكثير من الأشياء.. منها عملك أو حريتك خارج قضبان السجن.. وبالتأكيد ستكسب نفسك وقراء يؤمنون بك والكثير من الأعداء الذين تستفزهم حقيقة شرفك المهنية .
……………………………..
لذا إما أن تكون كاتب عمود متمكناً نزيهاً واثقاً من نفسك ومن عملك ومن سلامة لغتك او لا تكون.
مهمة الكاتب ورسالته لاتنطلق من استرزاق هنا أو خفة هناك ، الكتابة الصحفية الدائمة سواء كانت يومية ام اسبوعية أم شهرية هي التزام فكري وأخلاقي ومهني معا .
………………….
لابد أن نعي حقيقة الإختلاف بوصفه عملأ من أعمال العقل الحر وليس نتيجة لعطالة عقلية وذيلية ، لذا فأن التطابق يخلق مسوخاً ومريدين والتفرد يخلق كتابة فاعلة تثير أسئلة عميقة وتؤشر بسبابة واثقة الى مواطن الخراب الفكري ، الثقافي ، الاجتماعي ، الفني ، السياسي .. الخ .. وإن اسئلة الكاتب تخلق قراءة منتجة من قراء فاعلين يسهمون في صياغة الخطاب العام والذي يشترك فيه كاتب العمود وقراؤه .
…………………………..
ومن مخاطر الكتابة الصحافية عند المبدعين : ـ هي أن تكون الصحافة مقبرة الادب كما نسب لعميد الأدب العربي طه حسين هذا القول ، وهو بالفعل كان يكتب عموداً صحافياً في جريدة الأهرام كل أربعاء بعنوان « حديث الاربعاء « وكان يعاني كثيرا من ضيق العمود وكلماته على استيعاب أفكاره ، فكان يضطر الى الغاء أكثر من جملة لكي يستقيم أمر الشكل العام للعمود من خلال عدد الكلمات ، وهذه عبقرية تحسب لطه حسين في القدرة على اختزال فكرته بأقل عدد من الكلمات .
………………….
ومن مخاطر الأعمدة الصحافية أيضا أن كاتبها يكون مطية لخطاب أيديولوجي ما ، خادما او بوقاً لصراخ جماعي وهستيريا تطهيرية .
وهذه من اخطر الأفات التي تلوث الرسالة الاعلامية المكتوبة بوصفها حمامة سلام وناقوساً أيضا .. لأن العمود الصحفي ليس تفريغا لنزوة كتّاب أو من ورائهم ، وهو أيضا ليس خطاباً مدفوع الثمن .
……………………………..
لا أدعي الحيادية التامة ولا أدين الكاتب على مراجعه ، فهذة سنّة طبيعية للكتابة والانسان بوصفه كائنا مفكرا وينتمي الى مرجعيات وهويات متعددة ومتداخلة ، يتأثر ويؤثر .. ولكني هنا أدين الكاتب التابع ، المخدر ، الكاتب المنزوع النكهة والدسم معا . كاتب أملس الملامح ، يدمن الكتابة كأفيون له أولا وللقراء ثانية .