رامي أبو شهاب
تنطوي الأحداث الأخيرة التي تشهدها الأراضي الفلسطينية على قيمة شديدة الأهمية، ولا سيما في ما يتصل بالنسق الخطابي الثقافي القائم على (الذاكرة). فالفلسطينيون الذين تمرسوا في المنفى، والمقاومة، كما الاختلاف، والتشتت حتى تناساهم الزمن…
ولكن الأحداث الأخيرة تكشف عن مسلك ثقافي ينبغي أن نتأمله بشيء من الخصوصية، ولاسيما في السياقات المعاصرة، وتحديداً في ظل وجود عالم عربي مبعثر، منشغل بعذاباته الذاتية التي قوامها الصراع الطائفي الديني، وقوى المصالح، وولاءتها الخارجية، علاوة على مركزية السلطة. ففي غمرة هذا الانشغال بأوهام الحرية العربية، وغياب قيم التنوير، وعقلانية الفعل، لا شيء يمكن أن يلاحظ أشد من ذلك الكمون الإسرائيلي، الممثل بالهدوء، والترقب الحذر، بيد أن هنالك فعلا خفياً، أو مخاتلاً، ويتمثل بمحاولة تبني إعادة رسم الخريطة، وتغيير المكان، وبعثرة ذاكرته، من أجل طمسه، والأهم من كل ذلك المراهنة على أن الذاكرة الفلسطينية معطوبة، ولا سيما ذاكرة الأجيال التي كانت نتاج العالم المعولم، أو ما بعد الحداثي، وأبرز نتاجه اتفاقية أوسلو، مع وجود عالم مستغرق بماديته إلى حد السّذاجة، وفي ظل هذا الفراغ الأيديولوجي لمعنى المقاومة، بالتجاور مع غياب مشروع وطني للتحرر، إذ تراهن إسرائيل على أن الذاكرة الفلسطينية باتت مشوّهة، غير أن قراءة في مستوى الأحداث يكشف أن الذاكرة الفلسطينية هي نتاج اليومي المعاين، فضلاً عن العذاب والألم، إذ هي ليست نتاج خطاب ثوري، أيديولوجي تنظيري، ينهض على خطابات مفرغة من أي قيمة، فالذاكرة الفلسطينية هي تشكيل الشارع، وهي ذلك الإحباط من قيم هذا العالم الذي أدار ظهره للفلسطيني، ولاسيما العالم العربي الذي انشغل بصراعات عقائدية طائفية، وللأسف فإن معظمها مبني على حسابات فئوية، وسياسة حيث تحرص كل الأطراف على صون وجودها، وعدم فقدان مكتسباتها التي تحصلت عليها من مرحلة ما بعد الاستعمار.
يشار إلى أن الذاكرة هي أحد مفردات العملية الاستعمارية، ونسقها، ولعل إسرائيل بوصفها دولة كولونيالية لطالما راهنت على أن الذاكرة لن تصمد أمام الزمان، أو الممارسة، وتحديداً أمام هيمنة الخطابات الرأسمالية المقبلة من عالم متعدد المراكز، وأهم لافتاته الخطابات المعنية بتثمين قيم الاستهلاك، وإغراق الفلسطينيين في ممارسات ما بعد الحداثة، نحو ما يمكن أن نطلق عليه فقدان مفهوم الهوية عبر الثقافة السائلة، كما تحدث عنها زيغمونت باومان، وهذا يأتي بالتجاور مع طمس الخصائص المميزة للشعوب، ما يقود إلى المزيد من خرق الذاكرة، والعناية المطلقة من قبل الفرد بتوفير الحاجيات الأساسية، والاشتغال بالحياة، لا بفلسفة الحياة، وهنا علينا أن نستعيد شيئا من مفاهيم الذاكرة في الخطابات الكولونيالية، بدءاً من اختبار تجربة بعض الشعوب التي عانت من الاستعمار، ولاسيما الدول الأفريقية التي تحمل إرثاً كبيراً من العبودية نتيجة الاستثمار الأوروبي في أفريقيا، التي تمخضت عن تلك الارتحالات لمجاميع بشرية نحو أوروبا والأمريكيتين، كل ما سبق يعني أن هنالك فعلاً لنزع لإنسان عن أرضه، وموطنه، ولكن الأهم من ذلك فصله عن ثقافته، بيد أن الذاكرة الأفريقية ما زالت قادرة على استعادة عذاباتها، واسترجاع ذلك التاريخ، على الرغم من محاولات نسخه، وتبديد ملامحه عبر اصطناع عوالم أخرى، وذلك فقط كي تجعل أوروبا من التاريخ والذاكرة فعلاً لا مرئيا منتهياً.
إن التأمل لمسلك إسرائيل التي راهنت على تجاوز مفردات كالنكبة، النكسة، ومن بعد ذلك محاولة ردم مفردة المقاومة عبر استبدالها بالعمل السياسي، حيث نلاحظ أن الانتفاضة الأولى قد انتهت نتيجة سياقات عربية، وعالمية تتمثل بالاجتياح العراقي للكويت، والغزو الثلاثيني، وانهيار الاتحاد السوفييتي مما دفع إلى نشوء اتفاقية أوسلو، بيد ان الذاكرة الفلسطينية استعادت ذاتها عبر الانتفاضة الثانية، ولكن سياق الأحداث أدى إلى بترها، ولاسيما أحداث 11 أيلول/سبتمبر، وغزو العراق الثاني، وأخيراً الحروب الأخيرة على غزة التي تبددت ملامحها، ونتائجها نتيجة انشغال العالم بالربيع العربي، الذي أدت أحداثه إلى تحييد الفعل الفلسطيني، ومركزيته في الخطاب السياسي والإعلامي، وهكذا نلاحظ أن الخارج، أي السياق المحيط كان سبباً في إخراج الفعل الفلسطيني من المعادلة، وبين ثنايا هذه المراحل تعمل إسرائيل على كنس الذاكرة الفلسطينية، وتعريتها، بالإرهاب، والقتل، والتدمير، فضلاً عن شق الذاكرة الفلسطينية إلى جزأين: الضفة، وقطاع غزة، بالتجاور مع التبعثر الفلسطيني الخارجي، في المنفى والشتات، بيد أن الأحداث الحالية تكشف عن قناعة مفادها أن الذاكرة الفلسطينية ترفض أن تتحول إلى ذاكرة مفرغة من الأثر، فهذه الأجيال بدأت تدرك أن منطق الأشياء يحتم عليها فهم تاريخ طويل من الصراع، وأن هذا البؤس المجسد ما هو إلا نتاج فعل، وممارسة منهجية كولونيالية، إذ لم تترك إسرائيل شيئا إلا أحدثت فيه دماراً وتغييراً. إن الصراع الفلسطيني الإسرائيل بات ممارسة خطابية لا تقل أهمية عن إشكالية الأرض، لكون الثانية إشكالية انطولوجية ثقافية، إنها صراع الذاكرة، وكما أن الإسرائيليين مصرون على جعل مفردات معاداة السامية، والهولوكوست جزءا من تاريخهم، فإن على الفلسطينيين أن يمارسوا ذاكرتهم بنسق وظيفي، إذ لا بد من خلق مرويات، وسرديات فلسطينية كي تبقى الأرض عصية على التغيير، ومن خلفها الذاكرة التي تنهض على عدم النسيان، ولتكون مراكزها مفردات منها النكبة، والنكسة، والانتفاضة، وحق العودة، والأقصى، والشتات، ومخيمات اللجوء، والشهيد، والأسير، وكل هذا للحؤول دون وجود فجوة يمكن أن تتسع يوما بعد يوم بين الأجيال الفلسطينية.
إن الثقافة في هذا الصراع لا يمكن أن تكون أكثر أهمية من هذا الوقت، فالكتابة هي فعل تطويع للحدود، وهي فعل تأثير، من منطلق أن الممارسات الكولونيالية لا يمكن أن يطويها الزمن، وأن مشاكل المستعمرات، وأزمات الشرق الأوسط لن تكون بمنأى عن أوروبا والدول الغربية، فهنالك ذاكرة مسؤولة عن هذا، ولعل موجات الهجرات السورية نحو أوروبا، ومن قبلها هجرات الفلسطينيين، والعراقيين، والمغاربة، والجزائريين، والصوماليين، واللبنانيين خير دليل على أن الوجود الاستعماري كان سبباً في خلق هذه الواقع، ولكن علينا تذكر أن القضية الفلسطينية هي منتج النسق الإمبريالي الذي أفرز هذه المأساة التي كانت نتاج هذا الواقع الذي نشأ بعد رحيل الاستعمار، وما تلك الارتدادات التي نعايشها عربياً سوى نسق يذكر بأن الغرب هو المسؤول عما تؤول إليه الأحداث في الشرق الأوسط الذي أضحى السوق الأكبر لاستهلاك الأسلحة وتصدير الموت.
تعدّ كتابات الروائية الكاريبية جامايكا كينكايد، من أبرز النصوص التي تحتفي بفعل الذاكرة، فهنالك الذاكرة المؤسسة على الإرث الاستعماري، إنها ذاكرة جمعية، فلكل شعب قصصه التي تتحدث عن الشعوب المستعمرَة… من أين أتوا؟ وأين كانوا؟ هذه الأسئلة تؤدي إلى وصل ماضي هذه الشعوب بحاضرها، وهنا لا بد أن نتأمل كتاب إدوارد سعيد «خارج الذاكرة» الذي يتشكل جوهرياً على تثمين التذكر، والذاكرة، إنه نسق من العودة للماضي، ولهذا توقف الكتاب على تخوم فعل الخروج، ولم يمضِ بعيداً ليسرد سيرة سعيد في الغرب، ومع ذلك فقد كان الكتاب زاخراً بالألم، وبيان ما ينطوي عليه الاقتلاع، كما في كثير من الكتابات الفلسطينية القائمة على نسق الاستعادة للوجود الفلسطيني، ولاسيما للأجيال التي عانت صدمة الاقتلاع.
إن فعل التذكر من شانه أن يسهم في تشكيل الهوية، فالواقع الفلسطيني ليس بعيداً عن هذا، ففي فلسطين نجد أن الأجيال الفلسطينية التي سكنت في المنافي تحتاج إلى حراك فلسطيني يأتي من الداخل، والداخل الفلسطيني هو القادر على تخليق الهوية الفلسطينية، ولهذا تحرص إسرائيل دوماً على تنكيس هذا الوجود، وتبديد هويته، تشظيته، وتجزئته كما في الضفة، والقطاع، علاوة على التشظي الفلسطيني الخارجي، فهذا الوجود ? مما لا شك فيه- سوف يتحول مع الزمن إلى شبح، ولن يكون لنا من وجود إذا تخلينا عن الذاكرة. إن هذا الحراك الفلسطيني قد جاء لتقويض هذا النسق المبني على رسم ملامح جديدة للعصر، والمكان من أجل نفي الهوية الفلسطينية، فهذه المواجهات تأتي بوصفها محاولة من الفلسطينيين للإبقاء على الهوية، أو على الوجود، وحين تنبثق هذه المواجهات فإن التكوين الفلسطيني سوف يستعيد تلك الأجزاء المبعثرة هنا وهناك، لتدرك الأجيال أن ماضيها هو المسؤول عن الحاضر المعاش، ولهذا تتخذ تلك التذكرات قيمة مركزية في الخطاب ما بعد الكولونيالي، وضرورة تفعيلها على المستوى التخييلي، والإبداعي، ولكونها تتعلق بفكرة الهوية، وفكرة الوجود بمعناه المجرد والمطلق.
إن الكتابة تتحدد بخلق مرويات ذات فعل وظيفي، وأي غياب لهذا المرويات فإن تلك الأجيال لن تكون قادرة على خلق ذلك الاتصال بماضيها، ومن هنا لا بد من مقاومة عوامل التعرية الخطابية التي تستهدف تخليق مزاج جديد للمشكلة الفلسطينية، وهذا ما ينصّ عليه أغلب دارسي الخطاب ما بعد الكولونيالي من حيث الاستناد في تكوين النصوص على الذاكرة، وذلك بوصفه ممارسة خطابية، فعذابات الفلسطينيين، وتشتتهم، ومنافيهم، وتلك الأوطان البديلة المبعثرة، يجب أن تبقى في حالة استعادة يوماً بعد يوم، إذ لا بد من التأكيد على خطاب المأساوية في الحالة الفلسطينية التي تعلو على أي مأساة أخرى في العالم العربي، كونها انطولوجية بامتياز، وكونها عادلة.
إن مستويات الكتابة الخاصة بفعل التذكر تتبدى في بعض المستويات نمطاً، أو شكلاً من العلاج، للتخلص من آثار الاستعمار، ولكن في الحالة الفلسطينية فإن التذكر والكتابة تعدّ شكلاً من أشكال مقاومة التلاشي والذوبان، ولهذا لا بد للمرويات الفلسطينية أن تستعيد هذه الأحداث المأساوية من التاريخ الفلسطيني، وأي محاولة لتجاوز ذلك، فإن هنالك خطراً يمس الوجود الفلسطيني، فالصهيونية استثمرت الخطاب المأساوي لليهود، فهي ما زالت تختزن وتستعيد تلك العذابات اليهودية في تاريخها، بل أن خطابها بات جزءاً من الإرث الثقافي الأوروبي برمته، في حين أن المرويات الفلسطيني لا تبدو وقد امتلكت حاضنة ثقافية، فالذاكرة العربية طالما سعت للنأي بنفسها عن سرد المأساة الفلسطينية، فالمناهج العربية المدرسية باتت تنزح بعيدا عن الحكاية الفلسطينية، بل بات بعضها ممعناً في التمحور حول ذاتوية، وطنية مسرفة، على عكس الخطاب الثقافي الغربي الذي مارس نفوذاً وحاضنة في تشكيل أنساق، وأنماط من الاستعادة المتكررة للمأساة اليهودية، التي تنهض على أن اليهود يجب ألا يُنسوا في التاريخ، وعلى الغرب أن يثمن ماضيهم الأليم والمعذب، وهكذا فإن نضال اليهود لن يعرف الفتور، فهم يقامون أي نزعة لتهديد وجودهم، ومقابل هذا النسق فإن أي توقف للفلسطينيين عن التذكر، والاستكانة لمجريات التاريخ، سوف يقود إلى بناء جدار أو عزل المأساة الفلسطينية، وبذلك لن تكون هنالك من قيمة، أو وجود أنطولوجي فلسطيني وحتى لا نتحول إلى مظاهر أو علامات ربما تزول بفعل الزمن.
وكما تقول الناقدة كالي تال، فإن نظريات الصدمة، والمآسي الكولونيالية تكمن أهميتها بأنها تنطوي على قدر من التأثير في خلق الحراك الثقافي السياسي، وهذا لا بد أن يتحقق عبر مركزية (الألم) الذي لا يمكن أن يمحى بفعل السنين والعقود. إن قيمة المرويات التي صاغها كل من غسان كنفاني، وجبرا إبراهيم جبرا، ومحمود درويش، ومعين بسيسو، وإميل حبيبي، ويحيى يخلف، وسحر خليفة، وغيرهم، تبقى مرحلة من مراحل تشكيل الذاكرة الفلسطينية، وفعل التذكر، ومن هنا فإننا بحاجة إلى استكمال هذه السلسلة الخطابية بمرويات جديدة، تنهض على بيان الألم، والمعاناة التي يستشعرها كل فلسطيني تعرض لعقاب جماعي، سواء بالداخل أو في المنافي، والشتات، وهكذا لا بد من كتابة تتأسس على الذاكرة حتى نجمع بين الماضي والحاضر، وحتى يكون لنا وجود في المستقبل.