زينب سرور
ازدادت المكتبة «الشرقية التراثية» في جامعة «القدّيس يوسف» غنًى. ارتفع منسوب أصالتها، وأُعطيت سنونها المئة والأربعون جرعة حياة. لا يوحي شكلُ الخزانة الخشبيّة المتواضع بمضمونها، كما لا يتماهى حجمها الصّغير مع ضخامة ما تحويه. من الصّعب استيعاب قدرة رفوفٍ ثمانية صغيرة على احتواء أسرار أدبيّة تتجاوز السّتة آلاف محفوظة. ليست المحفوظات عاديّة، هي أسرار امرأةٍ طبعت حكاياتها الذّاكرة، وشبّت على كلماتها الأجيال.
في عقدها الثامن، حملت «الفلّاحة»، كما تحبّ أن تُنادى، أسرارها الورقيّة لتُقدّمها هبةً للعالم أجمع. اختارت ابنة الكفير الجنوبيّة، هذه الجامعة في «محاولةٍ لردّ بعض جميل تقديركم لأدب فلّاحةٍ، شاء لها القدر أن تستبدل المحراث بالقلم». رأت صاحبة «طيور أيلول» في اختيار رواياتها وقصصها لكي يتدارسها طلّاب الجامعة دَيناً يجب أن يُرد. فقرّرت ردّ الحسن بالأحسن، عبر وهب مقالاتٍ ومحفوظاتٍ ودراساتٍ عنها، تجمّعت في ثمانية عشر مجلّداً، للمكتبة، ليُصبح بذلك اسم إميلي نصر الله حاضراً إلى الأبد في أدب ووجدان ودراسات الأجيال القادمة. وقد جرى الاحتفال في مسرح «ليلى تركي» داخل المكتبة في شارع مونو.
ليست المحفوظات للعرض فقط. يتطلّع رئيس الجامعة سليم دكّاش اليسوعي إلى «نسخ المحفوظات إلكترونيّاً ووضعها على موقع المكتبة الإلكتروني، ليستفيد منها القاصي والدّاني وكلّ من يريد أن يستفيد استفادةً علميّةً للوصول إلى استخراج الفائدة القصوى منها». بالنّسبة إلى اليسوعي لا يقف الطّموح عند هذا الحدّ، بل إنّه يتطلّع «إلى المزيد من المحفوظات والوثائق في المستقبل القريب والبعيد، فتكون هذه المجموعة انطلاقةً نحو مجموعاتٍ أخرى من الوثائق، خصوصاً تلك المقالات والمؤلّفات الّتي تتحدّث عن الأديبة». بتواضعها المعتاد، وحضورها المحبّب استحوذت على اهتمام الجميع. وهي، على الرّغم من الصّعوبات الجمّة الّتي كابدتها في سبيل الوصول، لا تفارق الضّحكة ثغرها. روح النّكتة متأهّبةٌ دائماً في حديثها. كما أنّ دموعها حضرت سخيّةً خلال الكلمات، وقد امتزجت مع ابتسامةٍ ساحرة.
ذكر مواليد «إميلي» استدعى تعليقاً لطيفاً منها: شو هالجرصة؟ قالتها بخجل. تبعتها ضحكةٌ خافتةٌ تماهت مع تقاسيم وجهها الطّفولي. «روح النّكتة» استدعت ضحك الحاضرين من شعراء وأدباء وأصدقاء للمُكَرَّمة، على رأسهم مديرة المكتبة ميشلين بيطار. ليست نصر الله منقطعةٌ عن الواقع، بل هي واعيةٌ لتفاصيله. تقول، وهي الشّاهدة على حقبةٍ عمرها أربعةٌ وثمانون عاماً، إنّ «بلداً تقوم فيه صروح العلم والمعرفة والإيمان، كما في هذا الصّرح، لن ينحنيَ للعواصف، وسوف يظلّ قادراً على تجاوز التّحدّيات والتّجارب، مهما قسَت». منذ أسبوعٍ خلا، اتّصلت نصر الله بالبروفسور في الجامعة هنري عويس، قالت له «هل أستأهل هذا التّكريم؟ ولمَ؟، أنا فلّاحة وتكفيني حالي». هي إذاً، ترى نفسها فلّاحةً لا غير، لا تتطلّع نحو أبعد من ذلك. إلا أنّ ما لا تدركه تلك «الفلّاحة» أنّها «ستٌّ» حقيقية. استطاعت إميلي تجاوز تفاهة التراتبية والطّبقية، والجلوس على عرش الملوك. كلمات عويّس تلخّص المراد «من شرّع أنّ بنات الحقول والجنائن والبساتين، بنات الأرض لا يفزن بلقب السّتّ»؟
لم يستطِع لويس ميغيل كانيادا، زوج ماري لوث كومندادور، مترجمة كتاب نصر الله «يوميّات هر» إلى الإسبانية، أن يجد لقباً لإميلي أفضل من لقب «السّت». حاولَ تسميتها «الدّوني إميلي»، لينتقل بعدها إلى كنية «الليدي إميلي». لكنّه في النّهاية اختار «السّتّ». «لكنّها ستٌّ من نوعٍ آخر»، يقول عويس، «هي لا تكتفي بالطّنطور والفستان الطّويل، رصّعت زنّاره حجارة كريمة».يشرح عويّس نظرته لهذا النّوع من «السّتّات»، ويقول بلسان حال الجميع «هي الست الّتي تهب جزءاً من ذاتها، من محفوظاتها، إلى المكتبة. ففي عرفها، لا زالت المكتبة هي المعجن الّذي نأكل من خبزه، والميناء الّذي ترسو مراكبنا فيه».