كمال براكس – سيدني
الشعوب اليوم، أياً كان موطنها ولونها ودينها وعرقها ومستوى حضارتها، تُسيّرها ارادة واحدة عنيدة، هي ارادة تقرير المصير، ومعالجة قضاياها الخاصة بذاتها، لتجني هي ثمار جهدها، وتتمتع لصالحها بما وهبتها الطبعية من خيرات، ووفقاً لحاجات منبثقة من صميم هذه الشعوب، ومُعدّة لأن تُؤمن لافرادها التنعّم بالحرية والاستقلال والطمأنينة، وبما توفّره لها امكاناتها، من اسباب الرفاهية والاستقرار. ولم تكن الدول العربية أجمعها تتمتع يوماً بحريتها المطلقة واستقلالها التام لتتمكن من تقرير مصيرها، ولو بالقدر الذي يسمح الصراع بين الدول الكبرى التي تتنازع العالم، وكانت الدول الكبرى، تلي عليها دستورها، ونظام الحكم فيها، ويفرض عليها اساليب العمل دون ان يكون هذا الدستور ملائماً لطبيعتها كل الملاءمة، وهذه الاساليب مُتفّقة مع طبيعة ارضها وعقلية سكانها.
لكنّا نعلم انه لا يخلو مجتمع من المجتمعات البشرية من مشكلات يتخبّط فيها، وامراض يعاني آلامها، ويحاول حلّها او التخلّص منها في ضوء اختباراته الماضية، والتجارب العكسية التي مرّ بها وفقاً لمصلحته العليا، ومصلحة الافراد الذين يتألف منهم، وليست المشكلات في مجتمع ما، علامة مرض اصابه، او علة حلّت به وتمكّنت منه، بل كثيراً ما تكون، برهاناً ساطعاً، يشهد بتطوره ويُبيّن انه بلغ من النضج، درجة عالية، وسار في ميدان التحضّر والرُقي اشواطاً بعيدة.
وكل مشكلة تنجم عن عراك بين قوى متباينة، ونزعات متناقضة ولو ان جميع هذه القوى، تجمّعت، وعملت في اتجاه واحد، لما وَجَد ما يحول دون عملها، او يغيّر اتجاه سيرها، ولو ان جميع هذه النزعات، توحّدت وتكاملت، لما نشأ بينها عراك، وما دارت، في ميدان نشاطها رحى حرب طاحنة.
وحتى ارقى مجتمع انساني، واقربه الى الكمال، يظل بعيداً في تنظيمه عن مجتمع الارض مثلاً، او النحل او النمل.
ولا نستطيع ان نُقيس مشكلات المجتمعات الراقية المنظورة بالقياسات التي نقيس بها المجتمعات البدائية المتأخرة، فحاجات المجتمع البدائي ضئيلة، ووعيه لم ينفتح بعد تفتحاً يمكنه من التفريق بين النزعات الأنانية، والنزاعات الغيرية، وارادته ما تزال الى حد بعيد، تحت تأثير دوافعه العاطفية، فلم يتوصّل العقل بعد الى تهذيبها ولم يُوفق في تنسيقها وترتيبها، اما اذا بلغ التطور الحضاري والرقط الخلقي والفكري، والتفكير العقلي في مجتمع ما مبلغاً، يجعل من هذه المظاهر الانسانية، مجموعة من القوى الفاعلة، تستطيع الوقوف في وجه النزعات والميول والغرائز، اي اذا اصبحت القوى الانسانية في الانسان، قادرة على الصمود في وجه القوى الحيوانية الموروثة التي ما تزال كامنة في اعماقه، ومنازعتها السيطرة والتوجيه في السلوك، فحينئذ تبرز المشكلات وتتراكم.