وديع شامخ – رئيس تحرير مجلة «النجوم»
طريقة التنفيذ
لقد كانت «المحكمة العليا في أديون» كريمة جداً مع سقراط، فأعطته خيارات متعددة لموته ..
«يعتقدون الموت هو النهاية القصوى للإقصاء / لذا كان هذا العرض السخي»
سقراط يرفض دعوة تلاميذه للهرب ويوافق على تنفيذ الحكم، مختارا «السم» كوسيلة لموته .. «
إستدراك:
«أعتقد أن إختيار السم من قبل سقراط يمثل فعلاً مضاداً للموت الجسدي الذي أراد الخصوم له، لأن تناول السم يأتي بطريقة الإرادة الشخصية» كأس يتم شربه بإرادة واعية مشتركة بين الجسد والعقل معا وليس كالمقصلة مثلا. «
إن سقراط أسقط الموت كعقوبة من يد الحاكم، وحوله الى أداة معرفة لإدانة الحاكم والانتصار للمعرفة ليس بصفته ضحية ، وإنما بصفته سؤالاً مشاكساً حراً غير قابل للموت.
…………………………………..
سؤال المتن
لقد أنتج سقراط في موته قيمةً معرفية في دروب الحق والخير والجمال .. أمات جسده .. ولكنه حلّق عاليا في معرفة النفس «إعرف نفسك» ..وهو بداية الجدل الإنساني مع خرافة التجهيل .. تجهيل الآخر بنفسه أولا … اعتمادا على إعلان مضبب حول الذات .. اعلان يستمد قوته من غفلة الآخرين، ميوعتهم، وعبوديتهم .. لذا إنتصر سقراط للموت الذي يؤدي الى إثارة الأسئلة بمعرفة الذات مفضلاً التواري الجسدي، ومخلصا الى حقيقة الحضور العقلي والروحي ..
لقد فضّل سقراط الحضور في الذات وليس على موائد ومسارح الأخرين .. حتى أنه صمت تماما ولن يتكلم ويدافع عن نفسه، لأنه كان يعي تماما أن موت جسده «وهو مطلب المشتكين» سوف لن يحقق لهم ما أرادوه .. لان سقراط أينع أسئلة خصبة في معنى الحوار الجدلي والفعال .. وليس الإصغاء السلبي لآخرين لا تجربة لهم ولا حياة .. سوى مهمة الاقصاء المنظم للآخر بالحيلة وسواها ..
كان سقراط يعي تماما أن كأس السم لا يلغيه روحيا وعقليا .. بل أن الموت سيكون معادلاً لحضور الفكر .. لحضور الجدل والاسئلة. أكثر مما يثيره الحضور الفيزيقي من نتانة وخفة.
.. ومن الطريف جدا أن سقراط طلب من سجانه .. أن يسكب قليلا من السم قرباناً للآلهة .. ولكن السجان رفض وقال له: السم في الكأس مخصص فقط لموتك .. وبهذا فأن سقراط قد تناول قربانه كاملا دون شفاعة ..
المعرفة التي أطلقها سقراط هي معرفة معجونة بالروح والإيثار ضد الإقصاء .. ضد وجود الجسد «ميتا» بهيئة الحي. .. المعرفة التي أثارها سقراط في مجتمع «أثينا» هي الإنصات الى صوت الروح الداخلي وليس الإنشغال بتواطآت ومخادمات إجتماعية «نفعية» .. الإصغاء الى الآخر وفقا لسقراط يعني التعريف أولا بماهية «الند، الغريم» .. وعندما سعى سقراط الى الموت فانه أقرّ حوارية من نمط آخر .. ليس حوار الضحية والجلاد .. ليس حضور القوي وغياب الضعيف. ليس موت سقراط هو الانتصار أو الضعف .. بقدر ما هو إقتراح لألق الفكرة .إذ ان الفكر لا يمكن أن يموت. ..
كان سقراط قد عقد العزم للإخلاص للسؤال «لواجبه الفلسفي» ولو كلفه الغياب المؤقت بوجوده جسدا .. وهو كان مخلصاً لإزعاج السلطات كما يقول «سارتر، لاحقا» إن مهمة المثقف الأساسية هي إزعاج السلطات «والسلطة مع سقراط هي الآخر الذي لا يمكن الاصغاء اليه ومحاولة فهمه لانه كان عارفا طبيعة «الند» الذي لا يطرح شيئا للتأمل والمعاينة، بقدر ما يلزم سقراط والآخرين بالتسليم له فقط.
وهذا الوهم الذي يقع فيه الكثير من المنتجين «المنتفخين بذواتهم» قبل إمتلائهم من الآخر .. هنا سوف يكون الإصغاء لهؤلاء ضرب من العبث المعرفي والأخلاقي معا .. لانه يشيعون ثقافة «العبد والسيد» في الإصغاء .. وليس الانتصار الى قيمة الحوار بوصفه إثارة زوابع ، وحلول براكين ضد اليقين الذي يطرح بدم بارد وبمعية مريدين سفهاء، لايملكون ألسنة ناطقة وعقولاً ، بل رؤوساً لا تجيد سوى الإيماءة تصديقاً.، والإبتسامة الباهتة تسليماً.
كان سقراط يعرف تماما قبل فولتير «أن تحرر السذج من الأغلال التي يبجلونها قضية غاية في الصعوبة» ..
ولكن عظمة سقراط تجلت في أنه كان مزعجاً جدا للآخرين .. الذين لا يمكن الإصغاء لهم دون مشاكسة وإحراج .. إخلاصا لرسالة الدرس الفلسفي والإنساني والتاريخي معا.
لقد مات جسد سقراط ولكنه بقي خالداً في فكره وأسئلته التي لا تصدأ.
……………………………………………………………………….