هوفيك حبشيان
شارون ستون تتعرى. في السابعة والخمسين، لا يزال عند الممثلة الأميركية ما تقوله بجسدها عبر الكشف عن مفاتنها، بلا ارتباك أو حرج. العدد الجديد من مجلة «هاربرز بازار» الشهرية، حيث تطلّ بكليشيهات التُقطت بالأسود والأبيض البديعين (تصوير مارك أبراهامز)، يؤكد أنها المرأة التي لم يفترس الزمن طموحها ولم يشلّ عصبها ذاك العارض الصحي الذي ألمّ بها قبل سنوات وأحدث خللاً في دماغها. معظمنا يعلم ان التمثيل وظيفة يضطلع الجسد فيها بدور الوساطة بين العقل والتعبير. إنها أداة الممثل الأساسية، لا وجود له من دونها.
لم يكن التعري يوماً مشكلة عند الممثلات في القارتين الأميركية والأوروبية، إن أمام الشاشة أو خلفها، بقدر ما مثّل هاجساً عند السلطات ذات الطابع الرقابي. منذ أودريه مانسون، الممثلة الأولى التي ظهرت برداء حواء في فيلم أميركي مطلع القرن الفائت، هناك لعبة قطّ وفأر بين مَن يمجّد الجمال الانثوي صوراً وأفلاماً وفنّاً تشكيلياً ونحتاً، ومَن يقيسه بالسنتيمترات، ثم يشرعنه ويفرض عليه السلاسل المعدنية. كانت السينما في هوليوود دائماً من حرّاس الطهرانية. محاولة تعطيل محرمّاتها كانت غالباً تأتي من هامشها، ولا تتبلور داخلها.
تعرّي شارون ستون هو من نوع آخر. انه ذو مصادر متعددة: أولاً، محاولتها هذه تتولّد من الرغبة في ربط زمنين، الحاضر والتسعينات (يوم أطلّت علينا في «غريزة أساسية» لبول فرهوفن ــ 1992). يتحقق هذا من خلال الاعتماد على ذاكرة المتلقي البعيدة الأمد. انه ديالوغ بين لحظتين – لحظة صعود ولحظة ركود – من خلال لغة الجسد. في مشروعها، تدمير للزمن واختزال للمراحل، إحداث تناقض بين امرأة في طور التكوين وامرأة تكوّنت، بين امرأة كانت تكشف القليل وتشعل المخيلة، وبين امرأة أطفأت تلك الشعلة.
يلجأ البعض الى عمليات التجميل للتقريب بين فترات الحياة المتباعدة، إنكاراً للزمن الذي مرّ، ولا سيما الوقت المنقضي بين الشباب وما قبل الشيخوخة. تختار شارون ستون الأسود والأبيض وتدرجاتهما، الضوء البرّاق وكلّ ما ينتمي الى عالم الزيف، لإدراكها أنها باتت من سكان المتخيل الافتراضي. انه الخيار الأقل كلفةً وضرراً. تلبسه كسترة وتشلحه متى تريد. هكذا، تختار تعديل الصورة بدلاً من تعديل الحقيقة.
ثانياً، هذا التعري (وليس الاستعراء) ميّال الى التحدي؛ تحدي تلك الأجساد العشرينية التي تأكلها الميديا لحماً وترميها عظاماً فور دخولها الأربعين. تتعرى ستون، لأنها تريد أن تقول إن امرأة في مثل سنّها، تبعث على الحلم أيضاً. عديدة هي نماذج إهمال هوليوود للممثلات اللواتي تجاوزن الخمسين من العمر. عندما تطعن الممثلة في السنّ ويذوب الجمال وتدخل «حيز الخطر»، تصبح مطالَبة بأمرين: إما الموهبة وإما الموهبة الفائقة. بعض الموتورين يستدرجون ستون بتعليقاتهم، مطالبين إيّاها بإستخدام العقل لا الجسد، غير مدركين ان العلاقة بين العقل والجسد في مهنة كالتمثيل، وطيدة جداً، وأحياناً متداخلة.
ستون تريد أن تقول انها، في نظر الآخر، مرتبطة بصورة، قبل ارتباطها بالحقيقة. ولكن أمام صورة جسدها العاري، يريد الآخر جرّها الى الواقع (واقعها الآني)، فيما هي تحاول استرجاعه الى السينما، معبد الزيف والتلاعب والمونتاج. فيردّ القارئ المتصفح: «أريني وجهكِ الحقيقي، بل شخصكِ الحقيقي، كي أحكم عليكِ وأقول ما قيمتكِ اليوم». في هذا المعنى، تنصب الممثلة فخاً للمُشاهد، تحوّله قاضياً وتستفزّ عنده أسئلة نائمة. ذاك المُشاهد الذي لا يهتم الا بالمادة المعرضة للزوال والفناء. ذاك المُشاهد القارئ المتصفح الذي يخزّن الآف الصور يومياً، لا يكتفي بصورتها المنقّحة، بل يريد أن يتفحص مسامات جلد سيدة على مشارف الستين ويمررها عبر السكانر لمعرفة أين أصبحت هي اليوم على جدول الزمن، وتالياً لمعرفة أين أصبح «هو» على الجدول نفسه. متسلحاً بكميّة من العبارات المستهلكة، يقول لها إن الجمال موقّت بينما الموهبة أزلية والعقل أزلي. يا لهذا الخطأ الشائع: الصور تضمن أزلية الجمال، في حين ان استمرارية حياة الانسان لا تضمن أبدية عقله.
ثالثاً وأخيراً، تتجلى رغبة شارون ستون في السعي الى استعادة المعنى، والمقصود معنى أن يكون المرء مثيراً (بالمعنى الجنسي الغريزي الصرف)، من هذا المكان وفي حاضرنا الآني. الاعتقاد السابق لدى أرباب هوليوود جعل ستون خارج الاطار. اعتقاد آخر (اعتقادها) أعاد ترتيبها داخل الاطار. بتنا في عالم، يصوغ المعاني بلا توقف، وفق أطروحات اجتماعية وسياسية واقتصادية جديدة، مشكِّلاً وعياً جديداً في صددها. لكلّ مرحلة، مفهوم العري الخاص بها. ما كان جرأة في السابق، ليس اليوم أكثر من تسليع أو بزنس، وهو غداً شيء آخر. تعري ستون هو محاولة للقفز من معنى الى معنى، والعبور من المكانة التي وفّرتها لها الأفلام، الى مكانة أخرى: الصورة الجامدة. يكمن الخطر في أن تخرج ستون من المعنى الى اللامعنى، في عالم كلّ شيء فيه بات يحتاج الى مسوّغات وتفويض واعتراف كي يكون موجوداً. أميركياً، البقاء داخل الكادر هو الغريزة الأقوى، وربما الغريزة الأساسية.