إذا كان إشعال فتيل الشارع مجددا في يد العماد ميشال عون، وأولى تباشيره مسيرات برتقالية سيّارة بدءا من اليوم، فان إطفاءه في يد الرئيس سعد الحريري.

وحده زعيم «تيار المستقبل» قادر، لو أراد أو استطاع، على منع حصول الانفجار الكبير الذي من شأنه أن يهدد بتداعيات جسيمة، في أكثر من اتجاه، لكن مسار سلوكه جعل خصومه، وخصوصا عون، يرسمون الكثير من علامات الاستفهام حول نيته وقدرته، على حد سواء.

يشعر «الجنرال» بمرارة كبيرة حيال تجربته مع الحريري، وتحديدا في مرحلة ما بعد انعطافة روما، والتي كان يُفترض بها أن تقود إلى فتح صفحة جديدة بين الرجلين.

بل هناك من يقول إن قلب الزعيم المسيحي الأول يفيض غيظا، لإحساسه بأن الحريري «تشاطر» عليه، وخذله في محطات عدة، منذ اللقاء الذي جمعهما في العاصمة الايطالية وصولا إلى آخر اجتماع بينهما في «بيت الوسط»، مرورا بأكثر من محطة واستحقاق.

ومن يدقّق، أمس الاول، في كلام عون بعد اجتماع «تكتل التغيير والإصلاح» يلمس نوعا من النقد الذاتي في طيات مواقفه، يلامس حد الندم على انفتاحه الزائد على الحريري في مرحلة «الأوهام»، وهي مرحلة بالغ خلالها بعض المقربين في الجلوس في أحضان «الحريريين» إلى حد أن مشاركتهم في ذكرى 14 شباط الأخيرة، كادت تفوق مشاركة كل «14 آذار»، ناهيك عن الهمس السياسي المتبادل، وتبين أنه كله أوهام بأوهام.

لقد راهن عون كثيرا على علاقة منتظمة ومنتجة مع الحريري، وهو ظن لبعض الوقت انه نجح وإياه في بناء أعمدتها التي سترتفع عليها طوابق الشراكة في السلطة، إلى درجة انه راح يضرب أمام بعض المقربين منه، خلال شهور «العسل السياسي» مع الحريري، مواعيد لانجاز اتفاق رئاسي سيحمله إلى قصر بعبدا، قبل أن يتلاشى الموعد تلو الآخر، والوعد تلو الآخر.

تطول «اللائحة الاتهامية» في الرابية.

أوحى الحريري لـ «الجنرال» انه مستعد لدعم وصوله إلى رئاسة الجمهورية (بشرط أن يتحول إلى مرشح توافقي وأن ينفتح على مكونات «14 آذار» ووليد جنبلاط) ثم ما لبث أن تراجع.

أبلغه انه متجاوب مع تعيين العميد شامل روكز قائدا للجيش لا بل كان هو المبادر إلى طرح الأسماء من زاوية مقايضة تسهل تعيين رئيس فرع المعلومات مديرا عاما لقوى الأمن الداخلي، ثم تملّص.

تفاهم معه على التعاون في حكومة الرئيس تمام سلام، ثم استسهل ضرب آلية التوافق في مجلس الوزراء.

أكد له حرصه على المناصفة والشراكة، ثم رفض قانون الانتخاب العادل الذي يحقق التمثيل المسيحي الحقيقي في مجلس النواب.

مؤخرا، ايقن عون ان الحريري كان يشتري الوقت ويناور عليه، عن سابق تصور وتصميم، وهو يكاد يندم على اللحظة التي صدّق فيها أن السعوديين هم الذين يعرقلون تفاهمه مع الحريري ويقطعون الطريق عليه للوصول الى بعبدا، ما جعل منسوب الغضب في الرابية يبلغ مستويات قياسية وبمفعول رجعي.

وإذا كان الوزير جبران باسيل قد صُنِّف في السابق بأنه من أشد المتحمسين لتطوير العلاقة مع الحريري، وهو نجح الى حد كبير في تمتين صلاته السياسية والشخصية به وبمستشاره نادر الحريري، فان من يدقق في خطاب باسيل في الأيام الماضية لا يجد أي صعوبة في استنتاج خيبة أمله في ضوء تجربة بالغ في المراهنة عليها، لا بل ساهم في إقناع «الجنرال» بجدواها، مرارا وتكرارا!

لا يتعلق «الفيتو» على عون فقط بحسابات بعض أهل البيت السعودي فيضطر الابن السياسي للمملكة لمراعاتها، بل إن «الجنرال» بات على قناعة تامة بان الحريرية لم تكن متحمسة لإعطاء عون ما يريد، ربطا بنظرة «المستقبل» إلى موازين القوى في لبنان، والى ما يمثل تحالف «التيار الحر» و «حزب الله» في المعادلة الداخلية، ولعل الرئيس فؤاد السنيورة كان الأكثر وضوحا في التعبير عن هذه النظرة إلى ميشال عون وتحالفاته الداخلية والاقليمية.

أغلب الظن، ان نموذج إدارة لبنان في الحقبة السورية يقيم في وعي أو لاوعي بعض الطبقة السياسية اللبنانية، أو بالأحرى يريد استنساخه ولو بحلة جديدة.

هذا البعض يتطلع الى شريك مسيحي شبيه بالرئيس الراحل الياس الهراوي الذي كان متساهلا الى حد ابتداع صيغة «الترويكا» مع شريك رئاسي رابع غير معلن هو وليد جنبلاط، مع أرجحية دائمة للرئيس رفيق الحريري بحكم علاقاته وما يمثله من تقاطعات محلية واقليمية ودولية، ما سمح على مدى سنوات بتجيير الكثير من صلاحيات رئيس الجمهورية الى رئيس الوزراء وليس الى مجلس الوزراء مجتمعا، كما ينص على ذلك اتفاق «الطائف».

ويعتقد العونيون ان الحريري الابن يتصرف اليوم على اساس ان التطورات المتلاحقة في المنطقة تخدم المشروع الذي يحمله، ببعديه المحلي والاقليمي، وانه ليس مضطرا الى تقديم تنازلات لا لعون ولا لـ «حزب الله» في هذه المرحلة، قبل أن تنجلي صورة «الاشتباك الكبير».. وهي مرحلة ستفضي حتما الى تسويات ربما تعيد انتاج تجربة ميشال سليمان الذي انتهى عضوا رديفا في الصف الثاني لـ «14 آذار»!

يفترض الحريري ان التراجعات الميدانية للنظام السوري ستتواصل وان مدينة حلب ستسقط عاجلا ام آجلا تمهيدا لاسقاط دمشق، وان الحرب السعودية على اليمن لجمت التمدد الايراني في المنطقة، وان الاتفاق النووي بين طهران والقوى الدولية ليس مؤكدا، وإذا حصل، فسيكون على اساس حد ادنى لن يسمح لايران بانتزاع مكاسب اقليمية، وان «حزب الله» المنشغل بحربه في سوريا معطل داخليا ولا يستطيع ان يشكل سندا استراتيجيا لعون في معركة تصحيح التوازنات المحلية.

يراهن الحريري على ان تقود التطورات المقبلة الى ضرب النظام السوري و «داعش» في آن واحد، فيتخلص بذلك من ضغط «الاقليات اللبنانية» التي ستتاثر بانهيار النظام، ومن الخطر الذي يمثله الاتجاه المتطرف على نفوذ «المستقبل» في البيئة السنية.

أما ايران، فانها ستجد دول جوار خليجية تتصرف بندية وخارج السياق الذي تعوّد على رسمه الأميركيون، ولذلك، فان الاقليم، بعد «عاصفة الحزم» لن يستتب لايران التي تراهن أن يجعلها التفاهم النووي الدولة صاحبة النفوذ الأول في المنطقة، لا بل ستشهد المنطقة سباق تسلح نووي غير مسبوق في تاريخها…

في هذا السياق، يشعر الحريري انه ليس على عجلة من أمره، وان عون سيتورط في الشارع وسيحترق فيه سياسيا وشعبيا، عندما تمر الايام من دون ان يصنع اي انجاز، الامر الذي سيزيد الاعباء عليه، لاسيما ان المناطق المسيحية ستكون على الارجح مسرح احتجاجه، لانه لن يكون قادرا على قطع الطرق او تنظيم الاعتصامات في المناطق الاخرى!

وعلى قاعدة هذه الحسابات – الرهانات، لا يجد الحريري ان هناك ما يدفعه الى القبول بشراكة أكثر توازنا مع عون، في هذا الظرف، لا بل ان هناك من همس في أذن «الجنرال» قائلا إن سلوكه يقود البلد تلقائيا الى ما يريده الحريري وربما حتى بعض حلفائه، بوضع البلد على سكة المثالثة بدل المناصفة، خصوصا في ظل تمسكه بنظرية الأحجام والأوزان وأرقام استطلاعات الرأي.

وهنا، يقول مقربون من «الجنرال» إن جوابه كان واضحا: اذا كانت المناصفة لم تعط المسيحيين فتات حقوقهم، نقبل بالمثالثة اذا أعطتنا حقوقنا كاملة، لكننا نرفض تكريس الذمية السياسية وأكل حقوقنا من قبل «دواعش» السياسة (العبارة التي يكرهها الحريريون وهم تمنوا على عون عدم استخدامها أكثر من مرة ولكنه لم يتجاوب مع طلباتهم المتكررة).

«انه اللعب على حافة الهاوية»، كما يقول خصوم الحريري الذين يعتبرون ان الأخير «قرر المجازفة بـ «الطائف» بدل ان يكون في طليعة حماته، فغلّب شهية الاستئثار بالحكم على منطق الحكمة».

حتى الامس القريب، كان يمكن ان يؤدي تعيين قائد للجيش الى ارضاء عون، اما الآن فان «الجنرال» يطلب إعادة تشريح الجمهورية كلها. صارت الازمة أكبر من مطلب هنا او هناك، وبالتالي بات حلها يحتاج الى سلة متكاملة تشمل الرئاسة والحكومة والتشريع والتعيينات، والأهم ايجاد قانون انتخابي يضمن عدالة التمثيل.

هل يطلق الحريري مبادرة تحتوي الازمة، قبل انفجارها؟

وهل يبتكر سلام طريقة لمنع الصدام في جلسة مجلس الورزاء اليوم، حتى لا تتحول حكومة المصلحة الوطنية الى حكومة الإضرار بها؟

الساعات المقبلة قد تحمل معها الاجوبة المنتظرة، وحتما ستعيد الأمور الى نصابها وتمنع ذهاب البلد الى الفوضى التي لا تضمن لأحد الربح.

مجددا، انها آخر معارك «الجنرال».