.. ذكرنا في الحلقة السابقة بعض ما ذكره مفسرو القرآن العظيم حول رفع ذكر النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وآله «ورفعنا لك ذكرك» فقد رفع الله سبحانه ذكره في السموات والارض. فإنه يذكر في آذان الصلاة واوقاتها وفي التشهد وفي الخطب ومفاتيح الرسائل وختمها.. ومن اسمائه المباركة: «المرفوع» كما جاء في كتاب «اسماء الرسول المصطفى والقابه وكفاه وصفاته» ويذكر مؤلفه الجليل.
المشاهد ان بعض ابناء البشر يرتفع على الآخرين، ويصير له صيتاً وشهرة بين ابناء قومه او محلته او مدينته او دولته او امته او دول العالم اجمع او في اكثر من عصر او في جميع العصور، وليس هذا ينكر ولا يشكك فيه، على الارتفاع والشهرة مما يرغب فيه الكثير من الناس ولا يبغضه سوى النادر الذي يحب الانزواء والعزلة وخمول الذكر. وقد تشتد الرغبة عند البعض بحيث تدفعه الى التهوّر والمخاطرة بالنفس والمال من اجل كسب شيء من المعروفية – كل ذلك بدافع شهوة الشهرة التي هي احدى الغرائز البشرية التي قد تغلب سائر الشهوات وتظهر على تصرفات الشخص وافعاله، وقد تغلب فتبقى كامنة خافية كما ان الشهرة تنقسم الى ثلاثة اقسام.
1 – الشهرة بمعنى المعروفية والإشارة الى الشخص او الجماعة بالبنان.
2 – الشهرة بمعنى الإشادة والثناء… على شخص وانه من اهل الخير.
3 – الشهرة بقبح العمل وسوء السريرة والشر
واذا خرجنا من عالم الفرض والتقسيم، فإن ساحة الواقع العملي قد تؤدي الى اشتهار من لا يحب الشهرة ولا يرغب فيها، او يرغب… والشهرة الناشئة من الحب والرغبة تكون في الغالب وقتية ومحدودة في اطار معين.
واذا فرضنا ان هناك سياسة يتبعها الفرد للحصول على الشهرة العالمية – مثلاً – فهي تحتاج الى عبقرية فذة وسياسة نادرة وصعبة مع عوامل كثيرة يلزم توفرها لتحقيق هذا الامر.
وليست سياسة المشتهر وعبقريته وحدها بالتي تحقق الإشتهار ، بل يجب ان تنضم اليها عوامل مساعدة وظروف مناسبة مما هو خارج عن طاقة الشخص وقدراته واختياراته، بل لا تكون من فعله وتدبيره وهي التي يسميها البعض الصدفة او الحظ، ويسميها الآخر التوفيق والارادة الإلهية.
ولو تأملت في اسباب شهرة المشهورين فإنك ستقف على مدى تنوّع الأسباب وتفاوتها، كإشتهار آدم عليه السلام لأنه ابو البشر واشتهار قابيل اول قاتل، وهابيل اول مظلوم ومقتول ، وكذا اشتهار الانبياء والعلماء والقادة المصلحين، والأشرار، فإن التفاوت ملحوظ جداً، وان امكن حصرها في عناوين كلية، منها العمل السياسي ومنها الأولية والأسبقية الى عمل قبيح او حسن، ولكن الغالب في تخليد الاعمال والاشخاص يتناسب مع الذين يتعامل معهم ويقصدهم، فإذا كان العمل للأمة خلدته الأمة، وان كان العمل للإنسان خلدته الانسانية حتى ينتهي الى الله سبحانه وتعالى، فإذا كان العمل لله سبحانه فإنه هو الذي سيخلده… …
ومع كل ذلك فالأسباب في اشتهار الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – تتفاوت تفاوتاً كلياً مع سواهم. بحيث نلمس ذلك منهم بوضوح، وهو في الغالب يعتمد على المعاجز التي تظهر على ايديهم والآيات الباهرة التي تصاحب دعوتهم بالاضافة الي نصائحهم للناس ونشر التعاليم السماوية وارتباطهم بالله القادر.
ولا يخرج شيء من ذلك عن ارادة الله سبحانه، فيكون في الحقيقة هو الرافع لهم، ومن اجل ذلك صار الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله هو المرفوع الذي رفع الله سبحانه له ذكره فقال: «ورفعنا لك ذكرك» وعدّ ابن شهر آشوب من اسمائه «المرفوع» لأجل ذلك.
ولعل اهم ما يوجب شهرة الأنبياء هو اقتران اسمائهم والقابهم بإسم الله سبحانه فيقال: فلان نبي الله او رسول الله او ولي الله… واما في خصوص الرسول المصطفى «ص» فالامر في ذلك ابلغ بكثير، لأن المسلمين يشهدون له بالرسالة على المآذن كل يوم.. وفي صلواتهم تسع مرات على الأقل وهم يكثرون من الصلاة عليه كلما ذكر او ذكره ذاكر… واقتران اسم النبي «ص» مع الإسم المقدس «الله» لم يكن سياسة من النبي في سبيل تحقيق مآرب دنيوية بل هو بأمر الله سبحانه وتدبيره من اجل استمرار حياة الدين وحرارته في القلوب. اسماء الرسول المصطفى ج 3 – ص 202 وفي فتح مكة المكرمة ضاق الطلقاء ذرعاً عندما علا مؤذن الاسلام بلال الحبشي ره سطح الكعبة المعظمة ، ورفع في الحاضرين وبصوتٍ عالٍ نداء التوحيد والرسالة:
«اشهد ان لا اله الا الله. اشهد ان محمداً رسول الله»
عز علىالمشركين ان تقرن الشهادة لله بالوحدانية، مع الشهادة للنبي بالرسالة فقال بعضهم: الحمدلله الذي اكرم ابي – واماته فلم يسمع هذا البوم – او لم يرَ هذا الغراب الأسود – وقال ابو سفيان: اما انا فلا اقول شيئاً ، فلو قلت شيئاً لأخبرته هذه الحصباء!! كما جاء في السيرة النبوية…
وهذا خلط بين مسألة الإطلاع على الغيب وتلقي الحقائق عن طريق الوحي، وبين مسألة التجسس…
وروي عن الصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنه، ان احد الطلقاء الذي اعلن اسلامه بعد فتح مكة… والله ما كان الا منافقاً، ولقد كنا في محفل – وهو فيه – وقد كفَّ بصره وفينا علي «امير المؤمنين عليه السلام» فأذن المؤذن فلما قال: اشهد ان محمداً رسول الله. قال ذلك الرجل:
هل هنا من يحتشم؟ قال واحد من القوم: لا. فقال: لله درُّ اخي هاشم انظروا اين وضع اسمه. فقال علي «ع» له: اسخن الله عينك … الله فعل ذلك بقوله عزّ من قائل:«ورفعنا لك ذكرك» فقال: اسخن الله عين من قال: ليس ههنا من يحتشم…»
… ورفع الله سبحانه ذكر عبده المصطفى ورسوله المجتبى محمد صلى الله عليه وآله وخلّده في كتابه العظيم القرآن، عندما قرنه مع نفسه في الكثير من الآيات القرآنية الكريمة كما نلاحظ في الايات التالية:
> «واطيعوا الله والرسو لعلكم ترحمون» آل عمران 132
> «الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما اصابهم الفرح، للذين احسنوا منهم واتقوا اجر عظيم» آل عمران 172.
> «يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير واحسن تأويلا» النساء 59.
> «واذا قيل لهم تعالوا الى ما انزل الله والى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً » النساء 61.
> «ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ اولئك رفيقا» النساء 69.
> «ومن يطع الرسول فقد اطاع الله…» النساء 80
> «يا ايها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول، وتخونوا آماناتكم وانتم تعلمون» الأنفال 27.
> «يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم واعلموا ان الله يحول بين المرأ وقلبه وانه اليه تحشرون» الأنفال 24
> «يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول ولا تبطلوا اعمالكم» سورة محمد 33
> «واذا دُعوا الى الله ورسوله ليحكم بينهم اذا فريق منهم معرضون وان يكن لهم الحق يأتوا اليه مذعنين…» النور 48 – 49.
> «انما كان قول المؤمنين اذا دعوا الى الله ورسوله ليحكم بينهم ان يقولوا سمعنا واطعنا واولئك هم المفلحون» النور 51
> «ولمّا رأى المؤمنون الاحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زداهم الا ايماناً وتسليماً الاحزاب 22 .
> «وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله امراً ان يكون لهم الخيرة من امرهم، ومن يعصِ الله ورسوله فقد ضلَّ ضلالاً مبيناً الأحزاب 36
> «ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة واعد لهم عذاباً مهيناً» الأحزاب 57 .
> «… وما نقموا الا ان اغناهم الله ورسوله من فضله…» التوبة 74
والآية القرآنية هذه تظهر روعة التعظيم لعبدالله ورسوله محمد «ص» فقد جاء في كتاب ولولا السنتان لهلك النعمان» ص106 :
ان ابا حنيفة – إمام المذهب – أكل طعاماً مع – حفيد النبي – جعفر بن محمد الصادق. فلما رفع الصادق يده من اكله قال:
«الحمدلله رب العالمين» اللهم هذا منك ومن رسولك صلى الله عليه وآله فقال ابو حنيفة: يا ابا عبد الله، اجعلت مع الله شريكاً؟
فقال الإمام عليه السلام: ويلك ان الله تبارك وتعالى يقول في كتابه:
«وما نقموا الا ان اغناهم الله ورسوله من فضله…»
ويقول عزّ وجل في موضع آخر:
«ولو انهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله. وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا الى الله راغبون » التوبة 59 .
فقال ابو حنيفة – فحفيد النبي الصادق – : والله لكأني ما قرأتهما قط في كتاب الله ولما سمعتهما الا في هذا الوقت.
فقال الإمام الصادق عليه السلام:
بلى قد قرأتهما وسمعتهما … ….