عبير حسن العاني
> فجأة.. قررت أن تخرق قوانين العزلة.. لم تعد حسرات الوحدة تواسيها. فكرت بإيجابية لتعيد ماضيا كانت تراه ايجابيا رغم كل خيباته!
ذهبت إلى تلك الصحيفة التي كانت تواظب على قراءتها، أحسّت بمسؤولية جديدة تجاه الألم.. المبادىء.. وحتى نفسها.
دخلت.. رافقتها العيون المتسائلة من الباب وحتى آخر غرفة منعزلة. نظرات المارّة تقيدها.. تجعلها تتعثر على الرغم من ثقتها العالية بنفسها، تُشعِرها بأنها مجرد قطعة (شوكولاته) يرغب الجميع بالتهامها.
وأخيرا.. وصلت إلى الشخص (المسؤول)! سلمت عليه.. سلّم عليها بحذر وباصطناع اللامبالاة التي جعلتها تتيقن من انه سيستعرض كل إمكانياته( الرجولية) و(الأدبية) ليحظى بإعجابها.
بادرها حال جلوسها بينما عيناه الثاقبتان تلتهم تفاصيلها:
– أي خدمة أستطيع تقديمها لك؟
أجابته:
– أنا أديبة.. أعني كنت كذلك. أكتب الشعر والقصة، ولدي موضوع مهم أود نشره في جريدتكم التي لا أقرأ سواها لأنني لا أرى فيها أية خطوط حمراء!
سألها بينما هو يعبث بأوراقه كي يؤكد أهميته:
– وما هو الموضوع؟
أعطته في الحال مجموعة أوراق متسلسلة ومكتوبة بخط واضح جميل.
ابتسم متعجبا:
– ما هذا؟ هذا ليس موضوعا، هذه موضوعات!
فقالت:
– لا انه موضوع واحد.. انه موضوعي.. قضيتي!
بدأ بقراءة أول سطر، فالثاني.. ثمَّ تغيرت ملامح وجهه.. سألها وقد وصل منتصف الصفحة الأولى:
– منذ متى لم تقرئي جريدتنا؟
– منذ.. منذ أكثر من شهرين، لأنني كنت في الــــــ… أعني لم أكن أستطيع توفيرها.
كانت تنتظر رد فعل آخر، بينما فاجأها بالقول وهو يعيد لها الأوراق:
– هذا الموضوع غير صالح للنشر.
ردت بانزعاج:
– لماذا؟
– الموضوع ممتاز، والأسلوب رائع، واللغة بليغة. ولكن لا يمكن نشره، لأننا غيّرنا( سياسة) الجريدة.
– هل من الممكن أن توضح لي أكثر؟
– سأحاول أن أفهمكِ. ببساطة نحن الآن نكتب لنريح القارىء، نجعله يبتسم ويضحك.. وأنتِ تكتبين معاناة كبيرة وأحزانا وآلاما ومآسي لا دخل للقارىء بها! وفيما لو نشرتها فلن تباع عشرة أعداد من الجريدة، هذا علاوة على المساءلة التي سأواجهها أنا، باختصار يا عزيزتي لستُ مضطرا للمخاطرة.
ابتسمت قائلة:
– هذه إذا( سياستكم) الجديدة! هل تريدني أن أكتب لك عن زقزقة العصافير ونحن نستيقظ كل صباح فزعين على أصوات انفجارات وصراخ أطفال وأمهات؟!..
قاطعها:
– لِمَ لا؟ أنا شخصياً اسمع الزقزقة كل صباح على الرغم من كل شيء..
صمتت.. رحلت إلى هناك.. في لحظة واحدة تذكرت كل شيء..
كيف تمّ اعتقالها أما مرأى فضول المتربصين .. الأسلوب اللاآدمي ..استفزازات المحققين.. ذل السجانين.. تلك الغرفة المظلمة القذرة التي لا تزيد مساحتها عن عشرة أمتار مربعة، والغريب أنها أحست لأول مرّة بشوق لها! تذكرت شوقها للشمس.. للضوء.. لعقارب الساعة.. تذكرت خوفها مع كل اقتحام لغرفتها (ماذا سيفعلون بي؟).
وتذكرت.. وتذكرت..
رأت في وجه ذلك (المسؤول) وجوه الأقارب والجيران والأصدقاء الذين تجاهلوها بعد خروجها من المعتقل بريئة من تهمة لم تعرفها للآن!
كل الناس ابتعدوا عنها وكأنها المذنب الوحيد في هذا الوطن(البريء)!
تذكرت حبيبها الذي كان أول من ذهبت إليه.. متلهفة ومعتقدة انه سينسيها احتضار ستة أشهر كل لحظة فيهما أطول من دهر.. انتظرت كلمة مواساة، حضنا يمتص كل مرارة الخوف لينهي تاريخه، بل نظرة حنونة تعيد لها حياة (ما قبل السجن)! لكنه بدل ذلك، نظر إليها نظرة متسائلة فهمت أبجديتها:
( ماذا فعلوا بك؟ هل اغتصبوا شرفك؟)..
لم يملك الجرأة على السؤال، لكنها أجابته بجرأة المظلوم الذي لا يملك سوى صوته:
– لقد مارسوا معي جرائم أكبر من اغتصاب الجسد، لم يمس أحد جسدي، اطمئن! لكنهم اغتصبوا كل ما عداه.. ابتسامتي.. حريتي.. الجمال.. الأصدقاء.. الأهل.. وحتى أنت! وحاولوا الوصول إلى أحلامي، لكنهم عجزوا عن ذلك فقط.
كادت تصرخ بوجهه (لنوقف مهازل وطن ٍ يقتلُ أماً تضع ابن زنا ويبتسم في وجه (مواطنين) يخونون الوطن وتاريخه ودم ثواره).
تذكرت لحظة خروجها من المعتقل بعد أن أعلنوا لها أنهم سيمنحونها (متفضّلين) هواء الحرية.. الحرية التي هيهات أن تتنفسها وتتخيل بأن العصافير فَرِحة بالتحليق بفضاءاتها، بعد أن كسروا أقوى أجنحة (أسطورية) امتلكتها.
نظر( المسؤول) إليها منتظرا أجابتها. كانت تتمنى لو تتخلى عن أخلاقياتها للحظة لتقول له:
(أن صراصير السجن كانت أكثر إنسانية منك!).
حملت أوراقها.. ومضت وكل ما بها إلى شارع بخطوطٍ حُمر وبشرٍ بخطوطٍ حُمر.. ووطنٍ بخطوطٍ حُمرٍ حُمر.
ولم تُبقِ سوى حلمٍ وُلِدَ في بيتٍ يبكي دماً أحمر، ونما خلف قضبان صدأة، صاغته (الأنا) وغدا (نحن) ستمضي به ويمضي بها إلى عالمٍ لا تحدّهُ أي خطوط.
بغداد – 2004
كاتبة واعلامية عراقية/سدني
missiraq2002@hotmail.com