زينة عيسى
قال أحدهم: “أتيت إلى أستراليا منذ ٢٢ سنة. رجاء، لا تسئ فهمي! أنا أحب هذا البلد، ولست بناكرٍ للجميل. فأستراليا فتحت أبوابها لي وأعطتني فرصاً عديدة للعمل والنجاح، لكنّ قلبي لا يزال ينتظرني على عتبة منزل الأهل في بلدي الحبيب”. وتبقى قلوب عديدة هاتفة للعراق ومصر والسودان والأردن، أو تتألم لسوريا وفلسطين ولبنان وكل الأوطان الأخرى التي تظلّ سارية في العروق وحيّة في الذاكرة والروح.
هل يبقى المغترب دائماً على هذه الحال، فتصبح حياته مزيجاً من الألم والنعمة في آن واحد، إلى درجة أن يشعر بأنه تحت تأثير لعنة لن تفارقه وهو في بلاد الغربة؟ إذا كان الأمر كذلك، فهذا أشبه بلعنة بالفعل! فيجد المرء نفسه عالقا في دوّامة كبيرة لا يجد منفذا للخروج منها ولا سبيلا للخلاص، ويغرق في بحر من الاستسلام واليأس. ويصبح الحنين إلى الماضي وإلى الوطن والحياة الاجتماعية والأصدقاء والأهل هاجسا يوميا يسلب الحياة أفراحها، ويحولها إلى جحيم متقلّب الأطوار، يكبت حينا ويلتهب أحيانا. وهكذا تتحول النوستالجيا من حالة سوية وطبيعية إلى حالة مرَضية، معطلة كل الطاقات والإمكانات.
في معظم الحالات، يعود المغترب بعد طول انتظار لزيارة وطنه وقريته. وهناك يواجه إحدى الحالتين التاليتين: إما يفرح جداً ويعيش أياماً ممتعة، ثم يعود إلى الغربة ليواجه مشاكل الحياة المملة والمرهقة ويغرق من جديد في النوستالجيا والاكتئاب، أو يكتشف باندهاش وحزن عميق أنه قد خسر هويته، فلم يعد ينتمي إلى بلده الأصلي ولا يسعه الانتماء إلى بلد الإقامة أيضا. فيتبلور إدراك جديد في ذهنه يحمله إلى يأس ليس منه مفرّ. ويبدو السؤال ضروريا حول كينونته: من أنا؟ ماذا أصبحت؟ إلى أين انتمي؟ هل أنا بدون وطن؟ فأنا احمل جنسيتين، ولكن الأولى رفضتني والثانية لا تتقبلني.
لماذا ينتاب العديد من المغتربين الإحساس بالعجز عن مواكبة ثقافة البلد الجديد، فيقفون على أطلال الماضي، مقيّدين أنفسهم بأغلال ثقافة وتقاليد ولغة بلدهم الأم. ويقاومون كل ما هو جديد ومختلف، حاجزين أنفسهم داخل كبسولة زمنية تتحجّر في داخلها أفكارهم وتمنعهم من التآلف مع محيطهم.
لا شك أن اللغة هي عامل أساسي، ولكنها ليست بالضرورة عائقا. فهنالك أشخاص عديدون يبرعون في المجتمع الأسترالي بدون إجادة اللغة الإنكليزية. ويكمن السر في مدى انفتاح الشخص وتقبله لواقعه الجديد، بحيث يخطو في رحلة حياته الجديدة خطوات ثابتة ترتكز على قناعة تامة بأن الحياة لا تبقى على حالها، وأنها في تغير مستمر أينما كان. وينظر إلى بلده الجديد نظرة الطفل للحياة، إذ يندهش بكل ما هو جديد ويستقبل التحديات بفرح. القناعة، حب الحياة، النظرة الإيجابية للعيش، وعدم الغرق بالأوهام ? كلها أمور تساعد المغترب على التمتع بالحياة الجديدة التي يكون في معظم الأحيان قد اختارها لنفسه.
فدعنا لا ننسى لماذا أتينا إلى هنا. ودعنا ننسج لأنفسنا حياة مليئة بالنعمة والشكر لكل ما تعطينا إياه بلاد الاغتراب من أمان وفرص عمل وكرامة واحترام وحرية. وفي الوقت نفسه، دعنا نحافظ على تراثنا ونعتز به من دون مقارنة أو استهزاء بتراث وثقافة الآخرين، فنتمتع بكل ما يقدمه هذا المجتمع المتعدد الثقافات. ولنأخذ الأجمل من كل ما تعطيه هذه الحضارات، ونحول حياتنا إلى الأفضل، ساعين إلى مواكبة ومحاكاة مجتمعنا الجديد، فنفتح آفاقا واسعة ورحبة لثقافتنا العصرية.