هالة حمصي
لغز «الانجيل الخامس» يستمر، و “اللغز كبير” عجز اي عالم عن سبره. «كفن المسيح» لا يزال يشغل علماء وبحاثة من مختلف ارجاء العالم، لاسيما عضو فريق «شْراود ساينس غروب» «السيندونولوغ» اللبناني الوحيد فارس ملكي، «عاشقه» من 37 عاما. «علميا، كل شيء تقريبا بات معروفا عنه، باستثناء امر واحد مهم هو كيفية انتقال هذه الآثار من جسد المسيح اليه»، يقول ملكي لـ»النهار». الموعد مع «الكفن المقدس» لا يُفوَّت. والحجز أُجري قبل اسابيع من لبنان. واذا تمت الامور على خير، فستكون المرة الثالثة التي يشاهد ملكي الكفن، وجها لوجه. انها «واقعيته الكبيرة» التي تُمسِك به بقوة.
على غراره، يتوجه مئات الألوف الى تورينو?ايطاليا، في طليعتهم البابا فرنسيس (21 حزيران 2015)، لمشاهدة الكفن في الكاتدرائية، إبّان عرضه للعموم من 19 نيسان الى 24 حزيران 2015 في الذكرى المئوية الثانية لميلاد القديس يوحنا بوسكو، ابن المدينة، وذلك بشعار: «الحبّ الأعظم». في 4 ايار 1535، عرض الكفن للمرة الاولى في تورينو. ومرته العلنية الاخيرة تعود الى 2010، وقد صلى امامه البابا بينيديكتوس السادس عشر. العام 2013، اقيم عرض خاصّ له امام مرضى وذوي احتياجات خاصّة، ونقله التلفزيون الإيطالي إلى كل أنحاء العالم. وكانت للبابا فرنسيس كلمة عُرضت على الشاشة أمام الحضور. وإذا كان رجال دين ومؤمنون كثيرون جدا يرون في الكفن «علامات آلام الرب يسوع»، فان ملكي يقرأ فيه «انجيلا خامسا مصوّرا. انه علامة من علامات الازمنة».
امام يسوع… «وجها لوجه»
بالنسبة الى «سيندونولوغيين» مؤمنين باصالة الكفن، كملكي، فان مشاهدة الكفن «كالوقوف وجها لوجه امام المصلوب والقائم من الاموات في الوقت نفسه. نشاهده مصلوبا وقائما من الموت. ولفحة سلام سكنت وجهه»، يقول ملكي. وفقا لما يتفق عليه علماء الانسان، رجل الكفن «رجل سامي الملامح، له لحية وشعر طويل، وعمره بين 30 و40 عاما». طوله يراوح بين 172 و187 سنتيمترا، وفقا لقياسات عدة اجريت على مرّ الاعوام، بينما يقُدِّر «وزنه بنحو 80 كيلوغراما»، وفئة دمه AB، بحسب فحوص دقيقة.
حتى اصغر الجزيئات وادق التفاصيل، «شُرِّح» الكفن وفُحِص باحدث الوسائل العلمية. شغل علماء اعواما، ولا يزال. أحدث التحاليل نشرها العالم جوليو فانتي من جامعة بادوفا في كتاب العام 2014، واعلن بموجبها ان تأريخ الكفن يرجع الى القرن الأول ميلادي، بما يدحض تحاليل تأريخ سابقة بالكربون 14 تُرجعه الى القرن الرابع عشر. في واقع الامور، اذهل الكفن علماء وبحاثة عديدين، ترك بعضهم في حيرة، ولم يدع كثيرين في لامبالاة. وفي الحصيلة، ابحاث وبراهين تثبت صدقيته، في مقابل نظريات تناقضها «ولا تستند إلى أي اختبار علمي موثوق».
«التشابه الواضح»
في الوصف العلمي، الكفن عبارة عن «قماشة من الكتان مستطيلة الشكل، لكنها ليست مستطيلة بالكامل، اذ ان طول الطرف الاعلى لا يساوي طول الطرف الاسفل، وعرض الطرف الايمن لا يساوي عرض الطرف الايسر. فيكون الطول بمعدل 4,42 مترا، والعرض بمعدل 1,13 مترا…وبالامعان في النظر، نرى ان القماشة تتألف من قطعتين متلاصقتين، واحدة اساسية كبيرة، واخرى جانبية صغيرة تمتد على طول القماشة، ومرتبطة ببعضها البعض بخيط من كتان…»(*).
الحالة العامة للكفن «جيدة»، واللون مائل الى الاصفرار، «كلون التبن». بقع دم، علامات فارقة، ثقوب، خطوط طيّ. خطان قاتمان على طوله، مع خروق وبقع صغيرة من الماء هي اضرار حريق 1532، وأخرى كبيرة تعود إلى حريق سابق. واهم ما فيه انها «آثار انسان ميت، نرى جسمه كاملا من الامام، يداه الواحدة فوق الاخرى، رجلاه ممدودتان، شعره مسدل على وجهه، له شاربان ولحية منتوفة في الوسط. ومن الوراء، تنتشر على طول جسمه بقع حمراء من الدم، وهي اشد كثافة عند مؤخر الرأس»، يقول ملكي.
بين ما يظهره رجل الكفن وما تورده الاناجيل عن آلام المسيح، التشابه واضح، «وحتّى لا يوجد اي تعارض اطلاقا»، يؤكد ملكي. بمعاينته، يتبيّن ان «على وجهه كدمة مع اورام صغيرة. ورم في الوجنة اليمنى والخد، ورم في الشفة العليا والفك، انتفاخ فوق الحاجب الايسر، انف مشوه مع غضروف مكسور، جزء من اللحية نُتِف، وعلى جبينه سال الدم بغزارة من الجروحات البليغة التي سبّبتها أشواك غليظة وقاسية. في رسغيه ورجليه، آثار مسامير. وعلى الكتف اليمنى، سُحق الجلد تحت وطأة الصليب. ويظهر جرح الجنب الايمن، وسير الدم الخارج منه يتجه الى اسفل. اما جسده، فيحمل آثار جلد، تصل الى 120 ضربة على الاقل».
هذا ما اكده اطباء الادلة الجنائية المتخصصون بالتشريح، وأبرزهم الدكتور بيار باربيه والدكتور فريدريك زوغيبي الاميركي اللبناني الاصل، اضافة الى ان «مسامير اليدين غرزت في المعصم، بين عظام الرسغ، وليس في راحة اليد كما تخيّلها الرسامون وسار بها الاعتقاد الشعبي، وان الكفن لا يحمل اي أثر لاهتراء الجسد بعد الموت، مما يعني ان الجسد غادر الكفن بسرعة، قبل بدء عملية التحلل».
هذا «الامر العجائبي»
الى علماء التشريح، اهتم بالكفن علماء الدم، النسيج، الآثار، الانسان، المسكوكات، اللقاح، والكيمياء… لم يترك جانب واحد منه الا دُقِّق به. يقول ملكي: «ثمة نظريات عدة عن كيفية انتقال الآثار من جسم المسيح الى الكفن. لكن لم تلق نظرية واحدة اجماعا من المجتمع العلمي. ثمة نظرية تلقى عطفا من المسيحيين، وهي نظرية نور القيامة التي تقول بانه عندما قام الجسد من الكفن لحظة القيامة، ولّد اشعاع النور نوعا من الطاقة، كبيرة جدًّا جدًّا، ولمدّة قصيرة جدًّا جدًّا، حرقت سطح القماشة، مما جعل آثار الجسد تظهر على الكفن».
يؤيد علماء «رصينون جدا» هذه النظرية، ويقولون انه «لن نستطيع في حياتنا ان نبرهن كيفية انتقال هذه الآثار، لان هذا الامر عجائبي». في المقابل، «هناك فئة اخرى من العلماء التي تحاول ايجاد تفسير: هل حصل تفاعل كيميائي بين افرازات الجسم، من عرق ودم، والقماشة؟ ام الامر نتيجة الاعشاب والحنوط التي أتى بها نيقوديمس ووضعت على الجسم؟ الخلاصة ان انتقال آثار الجسم الى الكفن لا يزال لغزا». ويتدارك ملكي: «هذا الامر لا يمنع ان هناك دلائل كثيرة تشير الى ان الكفن هو كفن المسيح. وهي دلائل ترتكز على ابحاث علمية ووثائق تاريخية، وايضا على ما ورد في الاناجيل عن الصلب. الخلاصة ان صحة الكفن تكون بتضافر مجموعة دلائل تشير الى انه صحيح، اي انه كفن المسيح، من دون أن يحسم دليل واحد الأمر. وانا اؤيد انه كفن المسيح، ولا كفن غيره. ولا يوجد اي دليل يثبت العكس».
لدى التكلم على اصالة الكفن، يسترجع ملكي ابحاث فريق «ستارب» الاميركي (1978) الذي عاين الكفن عن قرب، وهي «اهم ابحاث، ولا تزال حتى اليوم المرجع الاساسي في كل الابحاث والنتائج». بعض ما توصل اليه الفريق هو ان البقع القرمزية الظاهرة على الكفن هي بقع دم انسان، ويخلو نسيج الكفن من اي مادة تلوينية اصطناعية، «مما يقضي نهائيا على نظرية ان رساما بارعا من القرون الوسطى رسم آثار الصلب باستخدام مواد تلوينية اصطناعية».
«واقعي جدا»
لا يقلق ملكي اطلاقا تجاه ظهور عالم، كل عام او عامين، يزعم انه وجد الطريقة التي انتقلت فيها الآثار على الكفن، ويشرح نظريته. «في الحقيقة، لم يتمكن بعد اي كان من ان يقدم نموذجا يتوافق مئة في المئة مع مواصفات الكفن»، على قوله. دعما لاصالة الكفن، يشير الى «وثائق تاريخية تدل على ان الكفن قديم جدا، ويمكن عبرها ان نرجع في تأريخه الى العام 944 على الاقل، يوم انتقل الى القسطنطينية… قماشة الكفن قديمة جدا. ويؤكد ذلك علماء كثيرون ممن درسوها. وقد ترجع الى الفي عام، بسبب طريقة حياكتها والاسلوب المستخدم في تبييضها».
3 كتب عن الكفن، موقع الكتروني متخصص (www.kafanalmassih.org)، مراسلات مع مؤرخين وعلماء و»سيندونولوغيين»، محاضرات… المهم بالنسبة الى ملكي «ان ننشر المعلومات الموثوقة عن الكفن بين الناس، عبر الكتب او الموقع الالكتروني والمقابلات والمحاضرات». العام 1978، بدأ شغفه بالكفن. «في ذلك العام، كان فريق «ستارب» بدأ ابحاثه. وصادف ان شاهدتُ فيلمًا وثائقيًّا عنها. واحببتُ الامر كثيرا، انطلاقا من كوني مهندس كمبيوتر، أُحبّ المنطق والحسابات». يومذاك، أجرى اول اتصال بالاب الراحل اندريه ماري دوبارل الدومينيكي، وهو احد ابرز مؤرخي الكفن. وتوالت المراسلات مع مختلف المهتمين. هذا «السيندونولوغي» اللبناني الوحيد يتشارك في شغفه مع سيندونولوغي آخر في الشرق هو الاب اللعازاري المصري ميلاد زخاري. «اليوم، شكّلنا مجموعة من نحو 100 عالم اختصاصي على الـ»ياهو» اسمه Shroud Science group. ونتبادل عبره المعلومات يوميا». الشغف بالكفن ابعد من ان يخبو، ولو قليلا. بالنسبة اليه، الكفن «يجمع بين العلم والايمان. وانا مسيحي مؤمن وعالم. وقد احببت ذلك»، ولا يزال. كل مرة يقع الكفن تحت نظره، تستوقفه «واقعيته». «انه كفن واقعي جدا».
(*) كتاب «كفن تورينو ربي والهي!» فارس حبيب ملكي- دار كومبيوتايب-بعبدات-لبنان.