عبير حسن العاني
كاتبة وإعلامية عراقية – سدني
عراقيةٌ أنا حَدّ النخاع.. عراقيةٌ بتاريخي المجيد والمرير.. عراقيةُ بسمرتي «وبحّة» صوتي التي تختزلُ قصّةَ حزنِ وطن..
عراقيةُ الدم والأب والجد.. والهوية والانتماء..
عراقيةٌ من أبٍ فراتي وأمٍ فراتية.. عاشتْ قربَ دجلة الخير الذي توغلَ ماؤه العذب بدهاليزِ روحها وجسدها..
ولِدتُ وعشتُ في بغداد.. ولم أزر المحافظات العراقية، كونها كانت معي هناك.. كلها.. في بغداد..
كانت أقرب صديقةٍ لي في الجامعة من محافظة بابل.. لم نكن نفارق بعضاً لدقائق، حتى أن البعض كان يتصورها شقيقتي رغم عدم وجود أي شبه في الشكل!
دعتني يوما لزيارة بيتهم في الحلّة.. لم تنتظر إجابتي التي ترددتُ بها قليلاً لإجراء ترتيب السفر، ولا أعرف للآن كيف وصلتُ سريعا إلى بيتها الذي أحببت..
والدها – رحمه الله الذي توفي قبل أشهر من الآن- احتفى بي أيمّا إحتفاء.. قام بإعداد الطعام صباح اليوم التالي من وصولي بيديه، حيث أعدّ الباقلاء التي تشتهر بها محافظة بابل.
لم أكن أحب الباقلاء، لكني بالطبع لم أصرّح بذلك في البداية! وبالفعل وجدتها شهية لذيذة وأنا أجلس معهم على الأرض، ولم أكن قد فعلتها يوما مع عائلتي.. أحسستُ أن ثمةَ شيئاً غريباً فيها.. تلك الأرض.. حيث تمتعتُ بتناغمٍ غريب مع حضارةٍ عريقة..
كلُّ شيء كان مختلفا عن بيئتي، لكنني أحببته بسرعة وبقوة.. كنتُ كمن يزور بلداً آخرـ لكنه يدرك أنها أرض أجدادِه الطيبين..
ولأنني أدركُ اختلاف البيئة بين العاصمة ومحافظة مثل بابل، كنتُ متوجسةً من تعاملي مع أخوتها، رغم أن اثنين منهم كانا معي في نفس الجامعة، لكن في كليات أخرى غير كلية الهندسة التي تضمني وصديقتي الغالية..
وذُهِلت حالما جلست معهم.. حيث بدا المزاح والمرح الذي لم أصادفه يوما.. وفي الحال شعرت أنني أنتمي لهذه العائلة.. وأحب كل ما يحبون حتى الباقلاء!.
وفي الصباح الباكر.. جاءني أخوها الذي كانت كليته «العلوم» تجاور كليتنا «الهندسة» في جامعة بغداد ، فقال.
– أبدلي ملابسكِ حالا.. سآخذك لجامعة بابل!
أجبته متفاجأة:.
– لِمَ؟ وكيف؟ وأنا لا أعرف أحدا فيها و .. فقاطعني وقال بإصرار:
– أنتظركِ في الخارج.. لديكِ خمس دقائق فقط!
كان الوقت مبكراً جداً ولم أكن قد نمتُ أصلا، فهذه عادتي حين أغيّر مكاني وما حولي..
ولكني ولأنني أحب روح المغامرة.. تهيأت خلال ثلاث دقائق.. وخرجت إليه ووجدته يضحك.. سالته بغضب:.
– ماذا؟
قال:
– واضح جدا أنكِ من بغداد!! الله يستر..
وظلّ يضحك طيلة الطريق..
وحين وصلت الجامعة، اكتشفت بنفسي سر ضحكه.. فأنا كنت ألبس زيّا مختلفا تماما.. قميصٌ قصير الأكمام.. و»تنورة» تصل أعلى الساق، أما بنات الجامعة هناك فكن بزي مختلف وأغلبهن يرتدين الحجاب المتكامل الحقيقي، وفي البداية شعرت بالحرج حين كان الجميع يتطلعُ إلي.. ولكنه زالَ بعد حين.
وبدأنا الجولة.. في كل المرافق ولا أذكر لحظة توقفت بها عن الضحك، كان يختلق أي شيء كي يضحكني، وأتوسله أن يكف، وهو لا ينفكُّ يبحث عن موضوعاتٍ أخرى تثير الضحك.. وأخيرا جلسنا في النادي لنأكل، وبعدها عدنا للبيت. وفي وقت الغداء تحدث للعائلة عن الرحلة، وكيف كان يحرجني بسردِ القصص المضحكة والنكت..
وفي صباح اليوم التالي اصطحبتني صديقتي إلى شارع أربعين المعروف جدا في الحلّة.. حيث الأسواق المكتظة ناساً وبضاعةً..
وكنا نخرج عصراً أنا وهي فيما تبقّى لي من أيام، هنا وهناك، في تلك المحافظة البسيطة بناسها والعميقة الجذور بتاريخها.. انا في ملابسي البغدادية وهي في ملابسها الحلاّوية!
مكثت في ذلك البيت المفعم حباً وحميميةً خمسة أيام، لم تفارق ذاكرتي حتى اللحظة.
أذكر أنني حين وصلت لهم أول يوم.. وشربت أول رشفة ماء، قلت لهم «أخيرا شربت من ماء الفرات.. ماء أجدادي».. فضحكوا..
كانت الحياة جميلة.. والضحكات كانت تخرج من القلب.. القلب الذي يسكنه الحب.. حب الآخر كيفما كان، ويملؤه الحلم الذي يرافق كل خطواتنا..
حين وقفت لأودع تلك العائلة، بكيتُ كثيرا..(هل كنت أبكي لأن شعورا خفيا كانَ يمنحني يقينا أن تلك الأجواء الحميمية لن تعود؟).
وبقِيت علاقتي مستمرة بتلك العائلة حتى اليوم.. معهم جميعا.. ولطالما نتذكر تلك الأيام ونحنُّ لها بألمٍ كبير وأملٍ قليل!
لم أحصل على صديقة قريبة مني.. من روحي وكياني، منذ تلك الفترة البعيدة وحتى الآن، ولم استطع إيجاد بديل لصديقتي الحلّاوية الحنونة، وربما لم أريد!
سأقول رغم المرارة التي تجعلني أرتجف وأنا أكتب الآن مفردات أمقتها بقرف.. صديقتي كانت «حلاّوية».. أي «شيعية».. وأنا «عانية» الأصل أي «سنية».. لكنني وصديقتي الحبيبة، لم نفكر بذلك الاختلاف «السخيف» يوما..
هي كانت تأتي لبيتي وتشاركني غرفتي، نأكل ونضحك ونلهو.. وأنا ذهبت إلى محافظتها، وكانت المرة الأولى والأخيرة التي أزور فيها محافظة أخرى غير بغداد.
والدي.. كان يعتبرها ابنته.. يسأل عنها يوميا، ويفتقدها.. وفي الظروف الصعبة التي مرت على العراق، كنت اكتوي نارا حين لا اسمع عنها ومنها شيئا.. وأهلي كذلك.
وأهلها أحاطوني بحنان وحب لم أجده عند أقاربي..
هل سأكون جاحدة حين أقول.. تباً للمذهب الذي يفرق الأحبة والأهل وأبناء الوطن؟
حسنا..حسنا.. أكاد أسمع الاعتراضات.. سأصحح قولي.. لماذا نبحث عما يفرقنا، وهو في الأساس «وهم»، ونتجاهل ما يجمعنا وهو «حقيقة» زرعها الله بنا كي تستمر الحياة في كوكبنا..
الحب.. لا يخضع للأوراق! فأنا حين أحب صديقة أو حبيب أو جار، فلن استأذن قلبي لأقرا هويته، وأرى هل هو من ديني ومذهبي أم لا!
الحب.. جمعنا في بلد أحبه الله ليبتليه! أحببنا جيرانا وأصدقاء وأحبة لم نكن نعرف مذهبهم بل وحتى دينهم أحيانا.. فهل يجوز بعد أن أحببنا، أن نسأل ونبحث؟
أحبننا وطناً يحوي كل القوميات والمذاهب والأعراق، فهل يمكن أن نحبَّ جزءاً من وطننا ولا نحبه بالكامل؟
هذه المرة سأقول بصوت صارخ.. تبّاً لوطنيةِ كلِّ من لا يحبُّ الوطنَ كله.. بكلُّ ما ومن يحوي.
Missiraq2002@hotmail.com