يحتفل المسيحيون في العالم بعد غد «بالجمعة العظيمة» أو جمعة آلام وصلب السيد المسيح، الذي جاء إلى العالم ليفتديه ويهرق دمه الطاهر لخلاصه.
ولا تنتهي الرواية عند الصليب، لأن المسيح قام من الموت، ومنح الحياة للمؤمنين، وخلص الآباء والأولين من احتجازهم في الينبس، حيث كانوا ينتظرون ساعة الخلاص، إذ لا خلاص بدونه وقد أعلن بكل وضوح وصراحة مطلقة انه هو «الطريق والحق والحياة… وأن مَنْ آمن به لا يدركه الهلاك، بل يكسب الحياة الأبدية».
– الرحلة الخلاصية:
الرحلة الخلاصية يدأت منذ أن عصى آدم وحواء العهد الإلهي معهما وقررا التخلي عن العناية الإلهية والانصياع لسماع إيحاءات الشرير.
وكانت ولادة قايين وهابيل: الأول ثمرة الشر، أما الثاني فأصبح أول ضحية لصراع الخير والشر داخل الإنسان وفي تاريخ البشرية.
من بلاد أور، لبى إبراهيم نداء الرب وانتقل إلى أرض الميعاد، حيث سيولد المخلص. فكان هذا هو الخروج الأول في رحلة الخلاص.
ولاحقاً قاد موسى الشعب اليهودي من أرض «العبودية» في مصر الفرعونية نحو أرض الميعاد. ويعتبر هذا هو الخروج الثاني.
ورأى الله أن «أسرة إيل» أي شعبه قد دنسته الوثنية وعبادة الأصنام. ولمسه الشرير نتيجة لاختلاطه بالوثنيين. فأمر الله موسى أن يطوف بالشعب في الصحراء طوال 40 عاماً. فيموت الجيل الأول ومن ضمنهم موسى، ويولد جيل جديد يتربى على روحية الناموس والوصايا التي منحها الله لموسى على الجبل. وكان الله يرعى شعبه ويوفر له «المنّ والسلوى والمياه والحماية طوال هذه السنوات».
– العودة إلى عبادة الأصنام:
ويذكر العهد القديم أنه عندما صعد موسى إلى الجبل اعتقد الشعب اليهودي أن الله تخلى عنه.
فقام الشيوخ منهم بجمع الحلى والفضة، وصنعوا عجلاً مذهباً وبدأوا يعبدونه، الأمر الذي أغضب موسى عند عودته من الجبل. فقام بتحطيم العجل، وأعاد الشعب إلى عبادة الله الواحد، ولقنهم وصاياه والشرائع الناتجة عنها والتي تحدد سلوكهم اليومي وطرق العيش معاً كأمة مكرسة إلى الله، سيأتي منها «المخلص».
أما الخروج الثالث، فهو بعودة «إسرة إيل» من المنفى في بلاد بابل. وألزمت هذه المرحلة الكثير من التضحيات والصلوات والندامة، لأن الشعب كان قد ضل وابتعد عن العناية الإلهية وعاد في أكثر من مرحلة إلى عبادة الأصنام، وأشرك عبادة الله بعبادة «بعل». وعملاً بالناموس، عاقبه الله على خطيئته.
– الخروج في العهد الجديد:
رمزية الأحداث الهامة في العهد القديم، تكررت في العهد الجديد، لكنها اتخذت دلالات أكثر وضوحاً.
فكما خرج إبراهيم من أرض أور، كذلك فعل المجوس عندما رأوا النجم يسطع في سماء المشرق، وأدركوا بفعل الإيمان وليس التنجيم أن عذراء ولدت ابناً سيخلص العالم، وهكذا بدأوا مسيرة الخروج للقائه والسجود له وتقديم الهدايا إقراراً منهم بخصوصية هذه الولادة العجيبة وبأهمية ودور الطفل المولود.
أما الخروج الثاني والمعاكس، فكان باتجاه مصر، عندما أخذ يوسف مريم والطفل وفرت العائلة المقدسة من وجه هيرودس، ابن الخطيئة، وابن الشرير، كقايين الذي أراد القضاء على «ابن النعمة» ومخلص البشر من موت الخطية. ولم تغادر العائلة المقدسة أرض مصر إلا بعد موت هيرودس.
أما الخروج الثالث والأهم، هو بقيامة المسيح وانتصاره على الموت، فوهب الحياة لجميع الأبرار السابقين. ومنح الحياة الأبدية لجميع المؤمنين به والذين يعيشون هذا الإيمان خلال اختبارات حياتهم اليومية.
– دينونة المسيح:
وكما فعل قايين، ابن الشر، عندما أصدر حكماً على أخيه هابيل، هكذا فعل رئيس كهنة الفريسيين الذين قال عنهم المسيح في يوحنا، الفصل الثامن، انهم «أبناء إبليس».
وعندما سأل قيافا يسوع «المكبل»، وكان قيافا قد قرأ ودرس النبوءات التي تحدثت عن مجيء المسيح المخلص الذي «سيحمل آثام العالم ويمحو خطاياهم»، توجّه إلى يسوع بالسؤال الجوهري قائلاً: قل لنا… أأنت هو؟ أي أأنت مَنْ تنبأ عنه أنبياؤنا أنك المسيح ابن الله العلي؟.
فأجاب المسيح: أنا هو.
وعوض أن يقبل قيافا شهادة المسيح، مزق ثيابه وعلّق قائلاً: «انه يجدّف… لسنا بحاجة إلى شهود. من فمه أدينه».
وهكذا تجددت المعاهدة مع إبليس للقضاء على المخلص الذي أتى لهذه الساعة ولشرب الكأس المرير التي أراد يسوع أن يشربها من أجل خلاصنا.
إنها المحبة المطلقة، أن يبذل الإنسان نفسه من أجل أحبائه.
– عبده العجل:
مَنْ يقرأ المسيرة الخلاصية، منذ التكوين حتى اليوم، يرى بوضوح أنه كلما تخلى الإنسان عن الله وابتعد عنه، يقيم لنفسه آلهة وأصناماً وعجولاً يعبدها، كما فعل الشعب اليهودي في صحراء سيناء.
وكلما ارتكب الإنسان معصية، يقيم لنفسه عجلاً يعبده. ونكاد أن نتصور وجود مسيرة قوامها الشر في محاذاة المسيرة الخلاصية.
فمن يعمل للمال والإثراء في حياته يقيم أصناماً ماديةً لا ترتبط بالله بأيّة صلة. ألم يقل المعلم: أعطوا لقيصر ما لقيصر ولله ما لله… ولا تكنزوا لكم كنوزاً في الأرض، بل منازل في السماء…؟؟
ومن يمنح الجسد والملذات أولوية في حياته يعيش فقط من أجل الجسد، ويقيم له عجلاً.
ومن يتكبر على النعم ويفاخر بقدراته وسلطانه وشخصيته، يقيم عجولاً يسجد لها ويهمل الله وقدراته، ويتناسى أنه «لله وحده تسجد، وإياه وحده تعبد…»
ومَنْ يبحث عن المعرفة والنور والترقي بعيداً عن الله وخارج تعاليمه، يتجاهل أن المسيح قال عن نفسه «أنه نور العالم، منه نستمد نورنا ومعرفتنا وتألقنا، ومعه نسير في النور، دون أن نسقط في هوة الخطيئة والموت».
ومَنْ يتخذ زعيماً أو إنساناً آخر حثياً أو رمزياً، مثالاً أعلى ينقاد إليه ويلتزم بتوجيهاته وإيحاءاته، يقيم عجلاً آخر يعبده، و يفاخر بإنسان زائل يفضله على الخالق الأزلي.
مَنْ يخادع ويكذب ويتظاهر أنه من أبناء الله، ويستفيد من موقعه وسلطته لتدعيم نفوذه وتحسين معيشته وتطوير قدراته، يتخلى عن روح الاتكال على القدرة الإلهية ويقيم عجولاً يعبدها.
ومَنْ يضربه الغرور ويتكابر بجماله أو قدراته أو مواهبه أو إنجازاته، دون أن تكون في قلبه المحبة، يكون كما يقول الرسول بولس، كالطبل الفارغ، يصدر رنيناً دون أي منفعة لنفسه أو للآخرين…
كذلك يفعل المدمن على المخدرات أو الكحول، مَنْ يروج لها ويسعى إلى الإثراء السريع على حساب صحة وحياة الآخرين.
مَنْ يروجون للشر والكفر والإلحاد وللمادية، ومَنْ يرددون اسم الله دون أن يكون الله محور حياتهم … هؤلاء في حياتهم أكثر من عجل وصنم يسجدون له.
كذلك يخطيء مَنْ يفعل خيراً ليمجده الناس، ويخطيء مَنْ يبعد نفسه عن فعل الخير بحجة أن الناس أشرار لا يستحقون. ويخطيء مَنْ يسجدون في الصفوف الأمامية في الهياكل ليراهم الناس ويمتدحونهم، ويخطيء مَنْ يسارعون للجلوس في صدور المجالس والمحافل.
ويخطيء مَنْ يدعون العلم والمعرفة ويفاخرون بشهاداتهم، وهم بعيدون كل البعد عن معرفة الله ومحبته المجردة. لقد حجبت كبرياءهم وادعاءاتهم كل سبل المعرفة وأعمت بصيرتهم روح العالم. وحيثما يكون العالم أولاً، يبتعد الله عن هيكله، لأن الإثنان لا يلتقيان. فمملكة الرب ليست من هذا العالم، وأبناء العالم هم أبناء إبليس وأخوة قيافا وقايين.
كم يتألم المسيح على صليبه من جهلة هذا العالم، وكم يدمع قلبه من خبث الكثيرين.
كم ينزف المسيح دماً وماءاً من قلبه، بسبب قساوة قلوب مَنْ افتداهم وغفر لهم وأبرم معهم عهداً جديداً قائماً على المحبة والرجاء…»
لقد كسونا وجهه وحجبنا رؤيته بتماثيل الإلحاد ونكران الجميل وأصنام العجول التي أقمناها على طرقات حياتنا.
لم نعد نرى وجه المسيح المتألم ولم نعد نرى نوره الساطع من القبر.
لم نعد نسمع صلواته أن لنا أب واحد في السماء وأن روح الحق وحدها تحررنا وتلهمنا وترشدنا.
اكتفينا بآلاف الأصنام، وصنعا آلاف العجول نعبدها دون الله، بعد أن أمتنا الله في قلوبنا ونزعناه من حياتنا.
وحدهم أبناء الخلاص يستحقون دم الفادي. وحدهم مَنْ يسمعون صوته ويلبون نداءه.
هم القادرون على تحطيم كل العجول والتخلص من أصنام المال والكفر والجنس والسلطة والكبرياء والأنانية والملذات وروح العالم، والتعبد للزعامات والتمسك بقشور الحياة الفانية.
كم يطلب إلينا اليوم ان نقوم بعملية خروج جديدة لكي نتحرر من عبادة الأصنام التي أبدعنا بزخرفتها. كتبنا الشعر لها، وألفنا الأغاني والأناشيد لمديحها. سجلنا ملاحم على اسمها وبطولتها. جمعنا الجيوش من أجلها، وخضنا الحروب تحت رايتها. قتلنا وسفكنا الدماء من أجلها. نثرنا الدمار حفاظاً على كرامتها، ودمرنا أجيالنا وأخلاقنا وإيماننا حفاظاً عليها…
هكذا، وبكل بساطة.
وعندما يغيب الله من حياتنا، لا يبقى سوى العجول.
نحن اليوم نعيش في عالم يقوده آلهة متعددة. ذات وجوه وسمات، هي أقرب إلى «سماه الوحش؛، ذاك الذي أوحى إلى آدم وحواء أن يخالفا وصية الله وأن يتحولا إلى آلهة…
اليوم، كل منّا أصبح إلهاً مستقلاً، يُقنع نفسه أن الله مات ولم يقم، وأننا نعيش في عصر الترقي والتنور والعقلانية المطلقة. إنه عصر قيافا الذي يرفض أن يؤمن أن المسيح هو البداية والنهاية، وأن العالم يزول وكلامه الحق لا يزول.
فعبثاً نفتش عن الحق في جوف عجل اعتقدنا انه هو الله.
وكم نحتاج اليوم ان نفرغ ذاتنا من ثقافة الأصنام لنلتقي مجدداً مع وجه الله المحبة والحياة.
Recent Comments