بقلم د. نجمة خليل حبيب
«قبل كل شيء، ورغم أننا في الحقيقة مشتتون مفتتون جغرافياً، ورغم أننا في الحقيقة لا نملك أرضاً خاصة بنا إلا أننا كشعب، متحدون كأقوى ما يكون الاتحاد. ففكرة فلسطين (التي صغناها من خصوصية تجربتنا في الاقتلاع والطرد الإستثنائي)، هي دعوة للترابط، نستجيب كلنا لها بحماس إيجابي».
كتاب هاني الترك «الفلسطينيون في أستراليا»، شاهد آخر على صحة مقولة صاحب الاستشراق هذه… هو لبنة تضاف الى المشروع الفلسطيني المقاوم للمحو والإلغاء، إذ ان هذه الجالية الصغيرة المهشمة في هذا المقلب البعيد من العالم قل أن أعارها الباحثون والموّثِقون للذاكرة الفلسطينية أي اهتمام. واهتمامنا بهذا الكتاب لا يرجع إلى إقليمية شوفنية ضيقة، بل إلى خصوصية القضية الفلسطينية التي خلقها المنفى وقطرية عربية رسمية تتبنى «القضية الفلسطينية العادلة» وتتجنب «الفلسطينيين» الذين لا يعرفون العدالة على حد تعبير الباحث فيصل درّاج.
أرض بلا شعب لشعب بلا أرض
ظل الفلسطينيون في أستراليا حتى وقت قريب مغيبين على المستويين الشعبي والرسمي، حتى انه لم يكن اسم فلسطين مدرجاً ضمن قائمة البلدان التي عليك ان تختار منها عند تعبئة أي استمارة رسمية أو خاصة لتشير على المكان الذي أتيت منه. ولم يتغير هذا الوضع إلا منذ بضع سنوات. ما زلت أتذكر الانكسار الذي انتابني وأنا أملأ استمارة طلب الجنسية (عام 1997) ولم يكن أمامي إلا ان أختار خانة Restless (رحّل). وقفت مهانة ذليلة… عندها فقط أحسست أن فلسطين تلاشت من الجغرافيا والتاريخ. وأن الدعاية الصهيونية نجحت في نشر خطابها المضلل القائل «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض».
وفي أستراليا أنقذ الأستاذ هاني الترك الجالية الفلسطينية من الغياب بخطوة سباقة في كتابه الرائد «الفلسطينيون في استراليا». هو رائد لأنه اول من أرخ لهذا الجندي المجهول الفلسطيني المنسي من ذوي القربى فلسطينيين وعرباً. ويتميز هذا الكتاب في أنه يقدم المعلومة التي تدحض التأويل الصهيوني بلغة إنكليزية واضحة وسلسة وفي متناول القارئ العادي. وبنهج حيادي بعيد عن العاطفة المسطحة، وبمنطق علمي مثبت بالحقائق التاريخية.
يثبت الترك في الفصل الأول من كتابه حضور فلسطين في هذا العالم منذ ما قبل التاريخ. هي بلاد مأهولة منذ الألف السابع (7000) قبل الميلاد، جاءها الفلسطينيون من جزيرة يونانية في بحر إيجه في الألف الخامس (5000 ق.م.) كانت يومها تسمى بلاد كنعان نسبة الى القبائل التي جاءتها من شبه الجزيرة العربية. وسماها اليونان فلسطين منذ القرن الاول ق.م. وسماها العرب فلسطين عند فتحهم لها في القرن السابع الميلادي، وظلت تعرف بهذا الاسم حتى عام 1948. وفي هذا الفصل يبين الكاتب حضور الفلسطينيين المميز حضارياً في عصور ما قبل التاريخ، فقد عرفوا النحاس والزجاج وصنعوا الأدوات الفخارية وتاجروا في أوروبا. وفي العصر البرونزي (الألف الثالث ق.م.) طور سكان فلسطين صناعتهم. والمثبت تاريخياً ان اليبوسيين وهم قبائل كنعانية أقاموا عاصمتهم في بلدة قديمة اسمها أورشليم. بهذا يكون سكان فلسطين في العصر الحديث هم الكنعانيون أو (العموريون) واليبوسيون والفلسطينيون.
لم يتجاهل الترك الوجود اليهودي في فلسطين فقد أرخ لهم بصدق وأمانة علمية. وبمثل ما سرد تاريخ الفلسطينيين سرد تاريخ اليهود القديم والحديث موثقاً عمله بالمصادر المعترف بمصداقيتها دولياً. ومما نستخلصه من هذا السرد، هو ان حضور اليهود في فلسطين تعرض لهزات كبيرة وهجرات عكسية لذلك لم يتجذروا في الارض كباقي السكان السابق ذكرهم. فهم جاؤوا الى بلاد كنعان من جنوب العراق. وعندما تعرضت فلسطين للمجاعة، هاجروا الى مصر وظلوا هناك حتى أيام النبي موسى. وفي عام 1020 ق.م. بعد عودتهم من مصر، توحدت قبائلهم بقيادة الملك شاول الذي قتل في معركة مع الفلسطينيين ثم خلفه ابنه داود ومن بعده ابنه سليمان الذي بدأ ببناء دولة منظمة فحسن الاقتصاد وتاجر مع ملكة اليمن سبأ. وفي عام 750 قبل الميلاد غزا الكلدانيون مملكة اليهودية وسبوا أعداداً كبيرة من اليهود الى بابل… وعندما غزا الفرس بلاد الشام أصبحت فلسطين جزءاً من سوريا. وفي عام 63 ق.م. ضم الرومان سوريا وفلسطين الى مملكتهم وكان هيرودس حاكماً على اليهودية. وفي عام 73 ق.م. هدم الرومان هيكل سليمان وبذلك يكون بقاء اليهود الفاعل في فلسطين لم يدم إلا 70 سنة. والمهزلة تكمن في أنه على أساس هذه السبعين سنة أقامت الصهيونية دعواها بحق اليهود في فلسطين وأسهم في جعل هذه الدعوى حقيقة الخطاب الكولونيالي المتمثل بوعد بلفور.
يبيِّن هاني الترك بالوثائق التاريخية ان نسبة اليهود في فلسطين في القرن التاسع عشر لم تكن لتتجاوز ال7% من سكان فلسطين. وأنه بسبب الهجرة المبرمجة التي سمح بها العثمانيون أولاً والبريطانيون ثانياً قفزت النسبة الى 12% أثناء الحرب العالمية الأولى. ثم قفزت بشكل دراماتيكي في عام 1946 الى 36%. نستنتج مما سبق أن فلسطين لم تكن يوماً «أرضاً بلا شعب» لا قديماً ولا حديثاً، ولا كانت «مجرد مكان يصلح لمشروع كولونيالي تقيمه فرنسا بامتياز كما ادعى مارتن».
يصور الخطاب الصهيوني المتخيل منه والواقعي الفلسطينيين جبناء يهربون عند القتال ويتركون قتلاهم وراءهم. ويدعي هذا الخطاب ان الفلسطينيين لا يقيمون وزناً للأرض والوطن فهم هجروا مدنهم وقراهم ومزارعهم دونما أسباب واجبة لذلك. ويدحض هاني الترك هذه الاكذوبة بلهجة حيادية وبتجرد كمؤرخ يسرد التاريخ ولا يحاكمه، فيعدد بعض الاعمال الارهابية التي نفذتها العصابات الصهيونية شترن وارغون اللتان كان يرأسهما كل من مناحيم بيغن وإسحاق شامير ويسكت عن ممارسات كثيرة جاء ذكرها على سبيل المثال لا الحصر في كتاب التطهير العرقي في فلسطين لأيلان بابي، وفي كتاب الليل وعوّاده لأثيل مانين. ولم يذكر الترك كيف منعت السلطات الاسرائيلية عودة الفلسطينيين بعد وقف الحرب وكيف انها هدمت أكثر من 500 قرية حدودية لتمنع اهلها من العودة إليها، وكيف كانت تقضي على من تسميهم المتسللين وعلى من يتعاطف معهم او يخبئهم من فلسطين الداخل.
الفلسطينيون في استراليا
تأخرت الهجرة الفلسطينيين الفعلية الى أستراليا الى ما بعد هزيمة 1967، ويثبت الترك من خلال البحث العلمي الموثق ان السبب يعود الى ان الفلسطينيين عندما هُجّروا من وطنهم عام 1948 كانوا يعتقدون أن هجرتهم لن تدوم إلا بضعة أيام او شهور على أبعد تقدير، لذلك ظلوا في الدول المجاورة (لبنان وسوريا والأردن) متأهبين للعودة، محتفظين بمفاتيح بيوتهم حتى صار لمفتاح رمزاً من رموز العودة. إلا ان هذا الامل بدأ يضعف بعد هزيمة العرب أمام «إسرائيل» عام 1967.
يقسم الترك الهجرة الفلسطينية الى استراليا الى ثلاث دفعات لم تتخط الدفعة الاولى التي حصلت عام 1946 عدد أصابع اليد الواحدة. ثم كانت الدفعة الثانية لبضع مئات في منتصف الستينات من القرن العشرين ولأسباب تتعلق بالحالة الاقتصادية المتردية والاضطهاد والملاحقة من قبل حكومات البلاد المضيفة، ثم كانت الدفعة الثالثة بعد حرب الخليج الأولى عام 1991 عندما هُجِّر الفلسطينيون من الكويت. يكتب الترك بحيادية واقتضاب عن أسباب الهجرتين الثانيتين.
بذكر هذه الاسباب، لخصتها نجمة حبيب في مقدمة كتاب بعنوان رؤى النفي والعودة في الرواية الفلسطينية.
وبيت القصيد في كتاب هاني الترك، هو الفصل الثالث، قسمه الثاني على وجه التحديد، وفيه يحكي معاناة الفلسطينيين مع التمييز العنصري في أستراليا.
من المعروف تاريخياً ان استراليا بنيت كمستعمرة بريطانية وانها تدور منذ إقامتها في فلك الامبريالية العالمية وانه منذ نشأتها يتجاذبان تياران واحد يريدها ابنة مخلصة للتاج البريطاني، وآخر يريدها عالمية تسترشد الثقافة والسياسة الأوروبيتين، الأميركية، على وجه التحديد، ويتداول على حكمها حزبان رئيسيان هما حزب العمال التقدمي، وحزب الليبراليين المحافظ.
يبين هاني الترك ان استراليا الرسمية بحزبيها الرئيسيين (العمال والاحرار) وقفت موقفاً سلبياً من الفلسطينيين، وذلك يعود الى إرتباطها بالسياسة الأميركية، وحيث ان أميركا منحازة الى إسرائيل فلزاما جرى انحياز أستراليا. ثم ان هذه السياسة انعكست تجهيلاً للقضية الفلسطينية على المستوى الشعبي حتى انه الى زمن قصير لم يكن ينظر الى الفلسطينيين إلا على انهم إرهابيين، الأمر الذي دفع بالكثيرين الى التكتم على انتمائهم ليتجنبوا الاضطهاد والممارسات العنصرية. وقد نجحت الدعاية الاسرائيلية في شيطنة الفلسطيني فساد الاعتقاد لمدة طويلة أنه إنسان عربي، مسلم، متخلف، يحتقر المرأة ويخطف الطائرات ويقتل الناس الأبرياء.
بدأت هذه الصورة تتغير في منتصف ثمانينات القرن العشرين، بدأ الاستراليون يرون عكس المشهد البشع الذي شاع في الستينات والسبعينات. وبدأ الفلسطينيون ظهورهم العلني بدون أي خجل او تردد بإعلان موروثهم الفلسطيني. ومع ذلك أظهرت استطلاعات الرأي ان التمييز الطائفي والعرقي كان لا يزال شديداً في استراليا. ففي إحصائية أجرتها صحيفة السدني مورننغ هارولد في 9 شباط 1988 بينت ان الاستراليين يفضلون الهجرة الأوروبية، وبالأخص البريطانية. فقط 17% اختاروا الهجرة من الشرق الاوسط. ويذكر الترك حادثتين تبيِّنان التمييز التعسفي ضد الفلسطينيين. ففي عام 1982 شيعت وكالة اخبار بريطانية خبراً مفاده، أن منظمة التحرير الفلسطينية متورطة بتدريب فلسطينيين على الاعمال الارهابية في مخيمات في شمال استراليا. وعندما وصلت الاخبار الى أستراليا ساهم الاعلام المحلي في تضخيم الحدث فنشبت موجة غضب شعبية عارمة على الفلسطينيين كان من نتاجها تعرض بعض البيوت في مالبورن للملاحقة بالإعلام والقضاء. وبعد تحقيقات موسعة تبين ان القصة كلها ملفقة. ويعيد الترك الأسباب لهذه الحملة المضادة للفلسطينيين إلى ان الأستراليين لم يختلطوا بالفلسطينيين ولم يتعرفوا على معاناتهم وظلوا يجهلون حقيقة الصراع والأسباب التي دفعت بهم الى اللجوء الى الكفاح المسلح لاستعادة حقوقهم.
تبنت أستراليا منذ عام 1947 سياسة منحازة الى اسرائيل، ولم تقف محايدة إلا في فترات قصيرة وغير فاعلة.
حدث ذلك لأول مرة عام 1972 على عهد غولف ويتلام رئيس الوزراء العمالي الذي عارض السياسة الأميركية ووقف محايداً في الصراع العربي الإسرائيلي. وفي هذه الفترة أيضاً برز نائب عمالي يدعى بل هارتلي Bill Hartley كان من أقوى المدافعين عن حقوق العرب ومن ثم عن حقوق الفلسطينيين. والجدير بالذكر ان بوب هوك رئيس الوزراء العمالي طرد هارتلي من المجلس النيابي قائلاً إنه عبء على الحزب لأنه من جهة كان مسنداً للفلسطينيين، ومن جهة أخرى كان على علاقة طيبة مع ليبيا والعراق ومنظمة التحرير الفلسطينية. أما في ما عدا ذلك فإن حزب العمال «التقدمي» كان دائماً منحازاً لإسرائيل. فبوب هوك رئيس الوزراء العمالي كان معروفاً بعدم تعاطفه مع القضايا العربية. لقد قال عند حرب 1973 انه لو كان رئيس حكومة إسرائيل ويملك قنبلة نووية لكان قصف العالم العربي بها. وفي عام 1974 رفضت الحكومة العمالية إعطاء تأشيرة دخول لممثل منظمة التحرير الفلسطينية ومعتبرة هذه المنظمة مجرد جماعة من الارهابيين. ومما يجدر القول ان هذا التصريح أجج الغضب الفلسطيني، فقامت مظاهرة احتجاج قوية ضده كانت بداية التاريخ الفلسطيني في أستراليا.
وعندما جاء مالكولم فريزر اليبرالي الى الحكم ربط السياسة الأسترالية بعجلة البيت الأبيض. وبعد اتفاقية كامب ديفيد، وفي مجال التعبير عن دعمه لاسرائيل قال فريزر للمنظمات الاسرائيلية: إن اليهود استعادوا حقهم في فلسطين دون ان يذكر أية حقوق للفلسطينيين كحق تقرير المصير او حق قيام دولة فلسطينية.
الانتفاضة الفلسطينية والتحول في السياسة الاسترالية:
يعيد الترك الفضل في التغيير الطفيف الذي حدث في السياسة الأسترالية تجاه الفلسطينيين الى الاعلام الأسترالي الذي غطى بشكل موّسع احداث انتفاضة عام 1987، إذ أسهمت هذه التغطية في الكشف عن الوجه الحقيقي للإسرائيليين الذي يتمثل بقمع واضطهاد وإنكار حقوق الإنسان. فكان أن أعربت الحكومة العمالية عن عدم موافقتها على ما تقوم به الحكومة الاسرائيلية من هذه الممارسات ضد الفلسطينيين ودعت الى مؤتمر عالمي تحضره كل الأطراف بمن فيهم الفلسطينيين. عندها زار بل هايدن الذي كان وزير خارجية استرالية المنطقة وانتقد ممارسات الحكومة الاسرائيلية في رسالة وجهها إلى الكنيست الإسرائيلي. وفي نفس الوقت تبرعت الحكومة الاسترالية بمبلغ مئتي ألف دولار لجرحى الانتفاضة. كما أن بوب هوك نفسه زار المنطقة عام 1987 وإلتقى بشخصيات من رام الله وغزة. وبعد عودته اعلن امام البرلمان ان منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي للفلسطينيين بمن فيهم المهاجرين. إلا ان هذا التحول الايجابي لم يكن جوهرياً، فقد ظلت استراليا تتخذ الكثير من المواقف السلبية للفلسطينيين، فمع أنها دعت الى مفاوضات مع ممثل منظمة التحرير وحثت الولايات المتحدة على القيام بالمثل ولكنها في الوقت نفسه لم تعترف بدولة فلسطين عندما أعلنت عنها منظمة التحرير عام 1988. ويسرد الترك أحداثاً ومواقف تبين ان السياسة الاسترالية ومن ثم الشارع الاسترالي آخذ في التحول الايجابي تجاه الفلسطينيين وقضيتهم. ويمكن الاطلاع على تفاصيلها في الفصل الرابع ص 36-40.
في الفصول اللاحقة بين الترك حضور الفلسطينيين الفاعل في المجتمع الأسترالي، فيعدد ما لهم من أنشطة ونواد وجمعيات ثقافية. كما انه يترجم لبعض الشخصيات البارزة في شتى الميادين الثقافية والاقتصادية والاجتماعية مما يبين صحة ما قاله إدوارد سعيد في كتابه بعد السماء الأخيرة:
«إن نجاحهم (الفلسطينيين) أصبح أسطورة لا مبالغة فيها. هم مثلاً يكوِّنون أعلى نسبة خريجين جامعيين في العالم العربي. وفي دول الخليج والأردن وحتى سنة 1982 في لبنان، يبرزون كمعلمين وأطباء ومهندسين ورجال أعمال ومفكرين. جريئون، لامعون، على كل شيء من عدوانية قلقة توحي بعدم الإحساس بالأمان. هذه هي بعض صفات الفلسطينيين في مجتمعاتهم المضيفة.»
دفعتني هذه التجربة للتساؤل: هل قصّر الفلسطينيون بحق قضيتهم، أم ان العالم صمت آذانه عن الحقيقة وإنجرف وراء الكذبة والدعاية الكولونيالية؟
يعرف كل من له/لها اهتمام بالقضية الفلسطينية أن الفلسطينيين لم يقصروا في الرد على هذا التأويل الصهيوني ورديفه خطاب الاستشراق الكولونيالي الذي يرى في فلسطين مجرد مكان لمشروع كولونيالي، فهم حاربوا الغياب بالإصرار على إستحضار المكان والتاريخ. في البدء كان استحضارهم شفوياً. كأن ينقل الآباء ذاكراتهم للأبناء. ثم تنبهوا الى ضرورة تدوين الذاكرة خوفاً عليها من الضياع، فكان أن حفل المشهد الأدبي والأكاديمي بمؤلفات تؤرخ لفلسطين قبل النكبة وتقدم شهادات تثبت حضورها. منها: كتاب يافا عطر مدينة لإمتياز ذياب يصور حياة اليافاويين من خلال مقابلات مع مختلف فئات المجتمع: عمال، طلاب، سياح ووجهاء في اماكن مختلفة: ورش، مصانع، ملاعب، وصور لمناسبات الاستقبال والترحيب بضيوف مشهورين. وكتاب ساره غراهام براون الفلسطينيون ومجتمعهم 1880-1946 حيث تعمل الصور التي يتضمنها الكتاب على تثبيت الماضي ومحو الغياب. وكتاب وليد الخالدي قبل شتاتهم: تاريخ مصور للفلسطينيين 1876-1948 يعرض فيه مجموعة ضخمة من الصور التي تعمل على تأكيد الحضور الفلسطيني وتقاوم المحو الذي تجهد الصهيونية في تثبيته. ويشمل الكتاب مقدمة تحتوي على المعلومات الأساسية لتلك لاحقبة. ووعي الفلسطينيون ضرورة حضورهم في الفكر ولاثقافة العالميتين فرافق ولادة ثورتهم المسلحة الحديثة عام 1965 نهضة أدبية وبحثية وعلمية تجسدت في مؤسستين اتخذتا من بيروت مقراً لهما: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، تأسست عام 1963، ومركز الابحاث الفلسطيني، تأسس عام 1965. ووعى غسان كنفاني أهمية الثقافة في العمل النضالي ورأى أن إرادة التحرير هي النتاج الطبيعي والمنطقي والحتمي للمقاومة بمعناها الواسع على كلا الصعيدين: الرفض والتمسك الصلب بالجذور والمواقف. وآمن بأهمية الدور الثقافي في المقاومة وبقيمته القصوى التي لا تقل أبداً عن المقاومة.
Recent Comments