العميد المتقاعد خليل اسبر وهبه
عرين البطريركية امانة في عنق البطريرك الماروني وأبناء طائفته الموارنة. هذه الامانة تستوطن في بكركي منذ نشوء المقر المقدّس في وادي قنوبين، وهي مرجعية لكل المهاجرين المغتربين ومحجة للسواح الاجانب من اربعة اقطار الارض.
منذ الامس البعيد والكرسي البطريركي قائم ومستمر في التاريخ وسيبقى حتى قيام الساعة. ولا مرة وقفت بكركي وقفة معادية لأي من مكونات المجتمع اللبناني العريق في القدم. ولا مرة أيضاً تطاول احد او تنطح زعيم لهذا الصرح المقدس الذي حفظت له المقامات السياسية الدولية مركزاً هاماً في طليعة المواقع السياسية. فما الذي تغيّر او تبدّل حتى أصبح اليوم فشة خلق أو مكسر عصا أو عرضة للتطاول عليه من قبل بعض المقامات النكرة ليكتسبوا شهرة اقليمية ومحلية عن طريق المسّ بكرامته وكرامة الصرح البطريركي.
هل هذه المواقف الجريئة التي تتخذ من هذه الايام هي بايعاز من مراجع سياسية او دينية داخلية توحي بها للمقامات اللبنانية في الداخل ام هي إيحاءات من خارج الوطن اللبناني؟
سيد الصرح في بكركي أسمى وأرفع من ان يتنازل من عرينه العالي ليردّ على مهاجميه، ومجرد الرد على الانتقاد يعد انتقاصاً من مقامه وكرامته التي كانت مصانة ومحفوظة في أشد الانظمة ظلماً وظلاماً مثل حكم السلطنة العثمانية الجائر. فسيد الصرح البطريركي ارفع من ان يتناولوه بالنقد والتجريح. فكيف اذا ابتعد عن الانتقادات الجارحة والماسة بكرامات المراجع السياسية المحلية؟
سيد الصرح يوّجه ويقوّم اعوجاج هذه المراجع متى تجاوزت حدودها الطبيعية. سيد الصرح قيّم على تاريخ لبنان المعاصر والقديم فكيف اذا تجاوز هذا البعض حدوده؟
مؤسف للغاية ان يتعدى هذا البعض حدود المسموح به في موقعه السياسي؟ ويزج انفه في عالم أكبر منه ولا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد. عندما يتدخل السيد البطريرك في مطبخ الطوائف الاخرى عندئذ يحق لهم ان يتعاطوا بشؤون الطائفة المارونية التي رسمت في العام 1920 حدود لبنان الكبير.
وحدود لبنان الكبير ليست وليدة الساعة ولا اختراعاً وهمياً آنياً يستظل به المكون المسيحي ليتقي غدرات الزمان وهجمات التتر والموتورين عليه. قرابة القرن حتى اقتنعت سائر المكونات الشقيقة الاسلامية بأحقية لبنان التاريخي بالحياة الكريمة على ارض هذا الجبل الصامد. فلماذا تناسى بعضهم هذه الثوابت التاريخية؟ أو يتناسونها كل حين؟
ومسؤولية المحافظة على لبنان المستقل هي مسؤولية جماعية يتحملها شراكة المكونان المسلم والمسيحي على حد سواء. يهمنا ان نوضح للرأي العام اللبناني والدولي ان مقام البطريرك الماروني ارفع وأسمى واعلى من أن يمسّه كلام تجريحي أو سواه. هذا المقام كان سيده اول سباق في التاريخ القريب الى بيع صليبه الذهبي المدلى على صدره لإطعام الجياع والفقراء إبان الحرب العالمية الاولى دون تمييز بين مسيحي ومسلم. والذين يريدون التنطح لهذا المقام يجب ان يتعظوا من الامم العظيمة التي حكمت العالم الحر وسواه في القرن الفائت التي احترمت هذا المقام ولم تتطاول عليه ابان سطوتها وسيطرتها على الشعوب المسحوقة في الشرق العربي.
تلك الدول العظمى لم تخل بالتزاماتها ولو لحظة واحدة. وما تزال حتى الساعة متمسكة بثوابتها التي ضمنت بقاء استقلال لبنان حراً وسيداً. ان الشعوب القادرة تفي بتعهداتها وتقف عند كلامها ولا تتردد في تجديد عهودها للشعوب التي انتزعت استقلالها بدماء شهدائها الابرار الذين سقطوا على مذابح الوطن قرابين مقدسة ضماناً لحرية شعوبها المستقلة.
متى يدرك بعض اللبنانيين المضللين انهم على خطأ قاتل فيما يعملون؟ ولمصلحة من يفعلون؟ مهما كانت الاسباب وجيهةً يبقى العمل خيانياً بحق الوطن وشعب الوطن. مهما كانت التبريرات محقة وهي ليست محقة بحق الوطن يبقى لبنان الاهم وصاحب أفضلية مطلقة على ما عداه من اوطان في الارض.
من هذا المنطلق بالذات يجب فهم رسالة البطريرك الماروني. واذا تخلى عن هذه الثوابت الوطنية يعدّ مقصراً ويصح ان يعتبر خائناً بحق الوطن اللبناني لكن يجب ان يدرك من اتخذ موقفاً معادياً من الكردينال الراعي انه ضالٌ وعليه ان يعيد حساباته ليلتزم من جديد الثوابت الميثاقية التي انقضى على تبنّيها قرن كامل بنجاح.
كل الخطايا مغفورة للمواطن اذا شذّ عن طريق الصواب في فترة من الزمن لكن الخطأ الوحيد الذي لا يغتفر له هو اذا كان مرتكباً بحق الوطن اللبناني، الضامن حقوق جميع مكوناته بالتساوي وبعدالة بين الجميع. مجد لبنان امانة في عنق البطريرك الماروني. فكيف يفرّط بها…؟