العميد المتقاعد / خليل اسبر وهبه
قبل اربعين عاماً تقريباً تدخل السياسيون اللبنانيون بأمور الجيش اللبناني بقوةٍ وعنادٍ واصرارٍ على تحويل مؤسساته عن خطها الوطني وشلّ قدراته على الصمود. فالتقت سوريا الاسد والفلسطينيون والاحزاب اليسارية اللبنانية والتقدمية جميعها على محاربة وحدة الجيش. تخلخلت هيكليته، دون ان تسقط في حلبة النزاع، لأن اساس البناء العسكري متين وصلب، وصفوفه متماسكة وصامدة في وجه الزعازع والاعاصير.
كان هدف الذين حاربوا المؤسسة العسكرية عامذاك ازاحة هذه العقبة الكبيرة لاسقاط النظام اللبناني الديمقراطي وتوطين الفلسطينيين في لبنان. لكن صمود اللبنانيين في وجه المؤامرة الدنيئة وقتالهم الشرس افشل هذا المخطط التآمري الذي ارتدّ عليهم وبالاً ودماراً على قضيتهم الكبرى.
ما اشبه اليوم بالامس؛ لقد طالعتنا الصحافة المكتوبة هذه الايام، بسعي غير مشكور من قبل مسؤولي الأمم المتحدة الوافدين الينا لاقناع حكام لبنان على الرغم من علاتهم المزمنة لتجنيس السوريين اللاجئين الى لبنان ودمجهم في المجتمع اللبناني المتعدد الاطياف.
هذه الهجمة الشرسة المستمرة على لبنان ما كانت لتحصل لولا تدخل السياسيين اللبنانيين بقضايا الجيش الداخلية بدعم من النظام السوري مفضوح ومستور منذ الاستقلال في الاربعينيات من القرن الماضي. ولا جيش واحد على امتداد الكرة الارضية يستمر فاعلاً وفعّالاً بخمسة رؤوس تتناهب الصلاحيات وتتجاذبها وتتلاعب بمصيرها الارادات الغريبة.
واستمر التقاتل اشهراً عدة حتى قيّض الله لهذا الوطن مؤتمراً في الطائف الذي كرّس مراكز الفئة الاولى مناصفة بين المسيحيين والمسلمين. وبنتيجة هذا التوزيع كان جهاز امن الدولة من نصيب طائفة الروم الكاثوليك. الاّ ان هذا التوزيع الطائفي لم يعجب بعض مكونات المجتمع كالشيعة مثلاً فخرجوا عليه وراحوا يطالبون بتقاسم صلاحيات مدير عام الجهاز بينه وبين معاونه الشيعي.
وتعقدت الامور اكثر فأكثر عندما اصطدم المسؤول السياسي بقرب احالة هذا المعاون الى التقاعد. ونشبت ازمة حادة تارة وطوراً صامتة بين الطرفين. واخذوا يطالبون بالتمديد لنائب مدير عام امن الدولة خلافاً لأي نص قانوني، خاصة وان خدمة هذا الضابط تنتهي حكماً بـ 26 حزيران 2016.
المماطلة في اتخاذ القرار الصائب مسايرة لاركان المكوّن الشيعي عطّل عجلة الحكم اللبناني وقضى على التراتبية الهرمية في السلك العسكري .
وما يؤلمنا أشدّ الألم هو ان نكون شهود زور على التعدي الفاضح على حقوق مذهب لمصلحة مذهب آخر ولا نحرك ساكناً او نسجل رفضاً جازماً. وبوضوح اكثر يتمسك كل مذهب بما كتب له من نصيب في توزيع الحصص. فالسنّة والشيعة والدروز لا يتخلون عما اصابهم من قسمة ومغنم، في حين ان المكوّن المسيحي هو الوحيد الذي لحق به الغبن اكثر من سواه في الوطن، ولا ينتفض او يقاضي لاسترجاع حقوقه الضائعة منذ اعتكف المسيحيون عن المشاركة في الحكم اثر اقرار اتفاق الطائف.
والأكثر غرابة وعجباً هو ان الشريك المحمدي كلما وضع يده على بعض حقوق الطائفة المسيحية منذ زمن مقاطعة المسيحيين للحكم في لبنان، تمسك به ورفض ان يعيد هذا الحق المغتصب الى اصحابه واعتبره تعدياً على حقوق الطائفة المحمدية وتجنياً عليها.
الشريك الآخر في الوطن يطبق المثل القائل: خذ وطالب بالمزيد». وهكذا دواليك حتى يصبلح النصف المسيحي «اهل ذمة قولاً وفعلاً». ومع ذلك يسمّون المسيحيين تأدباً نصف المجتمع اللبناني على الورق. في حين ان المسيحيين كانوا حتى بدايات الاستقلال الاغلبية الساحقة في البلاد. هذا الانقلاب الديمغرافي في غضون السبعين سنة الماضية اوقع لبنان في خلل سكاني كبير واورث شعبه الكثير من المشاكل والحروب بين مواطنيه، والضيوف الفلسطينيين القاطنين في المجتمع عدا عن مئات ألوف السوريين الموسميين الذين يقاسمون اللبنانيين لقمة عيشهم ويزاحمونهم على امتصاص خيرات هذا البلد الكريم. مما زاد في الخلل الديمغرافي واوقع اهل البلاد في حيرة من بقائهم على ارض الوطن كأقلية وطنية وسط بحر متلاطم الامواج البشرية، الغريبة عن شعبنا وبين الهجرة الى العالم الحر!
من اورثنا هذا التحوّل السكاني؟ ومَن المسؤول عنه؟
حكامنا، بالدرجة الاولى، هم في طليعة المسؤولين الذين تناوبوا على الحكم واغمضوا عيونهم عن الخلل الذي كان يتنامى عاماً بعد عام. وفجأة كبر حجم البعبع الى حد اوقع في يد القادر على التحرك صعوبة التصدي لهذا التنين الرهيب.
عودة الى نصّ اتفاق الطائف الذي حدّد بوضوح تام حقوق المذاهب الرئيسة في المجتمع اللبناني. فلأن بالعودة عن الخطأ المركب فضيلة لن يستقيم سير العمل في البلاد ما لم تعاد حقوق المسيحيين الى اصحابها ويعاد تطبيق المناصفة بين المسيحيين والمسلمين تطبيقاً صحيحاً كما نص عليها اتفاق الطائف.